[ ص: 296 ] القول في
تأويل قوله جل ثناؤه : ( وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم )
قال
أبو جعفر : وهذه الآية نظيرة الآية الأخرى التي أخبر الله جل ثناؤه فيها عن المنافقين بخداعهم الله ورسوله والمؤمنين ، فقال تعالى : (
ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر ) . ثم أكذبهم تعالى ذكره بقوله : (
وما هم بمؤمنين ) ، وأنهم بقيلهم ذلك يخادعون الله والذين آمنوا . وكذلك أخبر عنهم في هذه الآية أنهم يقولون - للمؤمنين المصدقين بالله وكتابه ورسوله - بألسنتهم : آمنا وصدقنا
بمحمد وبما جاء به من عند الله ، خداعا عن دمائهم وأموالهم وذراريهم ، ودرءا لهم عنها ، وأنهم إذا خلوا إلى مردتهم وأهل العتو والشر والخبث منهم ومن سائر أهل الشرك الذين هم على مثل الذي هم عليه من الكفر بالله وبكتابه ورسوله - وهم شياطينهم ، وقد دللنا فيما مضى من كتابنا على أن شياطين كل شيء مردته - قالوا لهم : " إنا معكم " أي إنا معكم على دينكم ، وظهراؤكم على من خالفكم فيه ، وأولياؤكم دون أصحاب
محمد صلى الله عليه وسلم ، "
إنما نحن مستهزئون " بالله وبكتابه ورسوله وأصحابه ، كالذي :
349 - حدثنا
محمد بن العلاء قال : حدثنا
عثمان بن سعيد ، قال : حدثنا
بشر بن عمارة ، عن
أبي روق ، عن
الضحاك ، عن
ابن عباس في قوله : (
وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا ) ، قال : كان رجال من اليهود إذا لقوا أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أو بعضهم ، قالوا : إنا على دينكم . وإذا خلوا إلى أصحابهم ، وهم شياطينهم ، قالوا : إنا معكم إنما نحن مستهزئون .
[ ص: 397 ]
350 - حدثنا
ابن حميد ، قال : حدثنا
nindex.php?page=showalam&ids=13655سلمة بن الفضل ، عن
محمد بن إسحاق ، عن
محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت ، عن
عكرمة ، أو عن
سعيد بن جبير ، عن
ابن عباس : (
وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلوا إلى شياطينهم ) قال : إذا خلوا إلى شياطينهم من يهود ، الذين يأمرونهم بالتكذيب وخلاف ما جاء به الرسول (
قالوا إنا معكم ) ، أي إنا على مثل ما أنتم عليه (
إنما نحن مستهزئون ) .
351 - حدثني
موسى بن هارون ، قال : حدثنا
عمرو بن حماد ، قال : حدثنا
أسباط ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=14468السدي في خبر ذكره عن
أبي مالك ، وعن
أبي صالح ، عن
ابن عباس - وعن
nindex.php?page=showalam&ids=17058مرة الهمداني ، عن
ابن مسعود ، وعن ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم : (
وإذا خلوا إلى شياطينهم ) ، أما شياطينهم ، فهم رءوسهم في الكفر .
352 - حدثنا
بشر بن معاذ العقدي قال : حدثنا
nindex.php?page=showalam&ids=17360يزيد بن زريع ، عن
سعيد ، عن
قتادة قوله : (
وإذا خلوا إلى شياطينهم ) أي رؤسائهم في الشر (
قالوا إنما نحن مستهزئون ) .
353 - حدثنا
الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا
عبد الرزاق ، قال : أنبأنا
معمر عن
قتادة في قوله : (
وإذا خلوا إلى شياطينهم ) ، قال : المشركون .
354 - حدثني
محمد بن عمرو الباهلي ، قال : حدثنا
أبو عاصم ، قال : حدثنا
عيسى بن ميمون ، قال : حدثنا
عبد الله بن أبي نجيح ، عن
مجاهد في قول الله عز وجل : (
وإذا خلوا إلى شياطينهم ) ، قال : إذا خلا المنافقون إلى أصحابهم من الكفار .
355 - حدثني
المثنى بن إبراهيم ، قال : حدثنا
أبو حذيفة ، عن
شبل بن عباد ، عن
عبد الله بن أبي نجيح ، عن
مجاهد : (
وإذا خلوا إلى شياطينهم ) ، قال : أصحابهم من المنافقين والمشركين .
356 - حدثني
المثنى ، قال : حدثنا
إسحاق بن الحجاج ، عن
عبد الله بن أبي [ ص: 198 ] جعفر ، عن أبيه ، عن
الربيع بن أنس (
وإذا خلوا إلى شياطينهم ) ، قال : إخوانهم من المشركين ، (
قالوا إنا معكم إنما نحن مستهزئون ) .
357 - حدثنا
القاسم بن الحسن ، قال : حدثنا
الحسين بن داود ، قال : حدثني
حجاج ، قال : قال
nindex.php?page=showalam&ids=13036ابن جريج في قوله : (
وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا ) ، قال : إذا أصاب المؤمنين رخاء قالوا : إنا نحن معكم ، إنما نحن إخوانكم ، وإذا خلوا إلى شياطينهم استهزءوا بالمؤمنين .
358 - حدثنا
القاسم ، قال : حدثنا
الحسين ، قال : حدثني
حجاج ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=13036ابن جريج ، قال : وقال
مجاهد : شياطينهم : أصحابهم من المنافقين والمشركين .
فإن قال لنا قائل : أرأيت قوله (
وإذا خلوا إلى شياطينهم ) ؟ فكيف قيل : (
خلوا إلى شياطينهم ) ، ولم يقل خلوا بشياطينهم ؟ فقد علمت أن الجاري بين الناس في كلامهم : " خلوت بفلان " أكثر وأفشى من : " خلوت إلى فلان " ومن قولك : إن القرآن أفصح البيان!
قيل : قد اختلف في ذلك أهل العلم بلغة العرب . فكان بعض نحويي
البصرة يقول : يقال " خلوت إلى فلان " إذا أريد به : خلوت إليه في حاجة خاصة . لا يحتمل - إذا قيل كذلك - إلا الخلاء إليه في قضاء الحاجة . فأما إذا قيل : " خلوت به " احتمل معنيين : أحدهما الخلاء به في الحاجة ، والآخر في السخرية به . فعلى هذا القول ، (
وإذا خلوا إلى شياطينهم ) ، لا شك أفصح منه لو قيل " وإذا خلوا بشياطينهم " لما في قول القائل : " إذا خلوا بشياطينهم " من التباس المعنى على سامعيه ، الذي هو منتف عن قوله : "
وإذا خلوا إلى شياطينهم " فهذا أحد الأقوال .
والقول الآخر : فأن توجه معنى قوله (
وإذا خلوا إلى شياطينهم ) ، " وإذا
[ ص: 299 ] خلوا مع شياطينهم " إذ كانت حروف الصفات يعاقب بعضها بعضا ، كما قال الله مخبرا عن عيسى ابن مريم أنه قال للحواريين : (
من أنصاري إلى الله ) [ سورة الصف : 14 ] ، يريد : مع الله . وكما توضع " على " في موضع " من " و " في " و " عن " و " الباء " كما قال الشاعر :
إذا رضيت علي بنو قشير لعمر الله أعجبني رضاها
بمعنى عني .
وأما بعض نحويي
أهل الكوفة ، فإنه كان يتأول أن ذلك بمعنى : وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا ، وإذا صرفوا خلاءهم إلى شياطينهم - فيزعم أن الجالب ل " إلى " المعنى الذي دل عليه الكلام : من انصراف المنافقين عن لقاء المؤمنين إلى شياطينهم خالين بهم ، لا قوله " خلوا " وعلى هذا التأويل لا يصلح في موضع " إلى " غيرها ، لتغير الكلام بدخول غيرها من الحروف مكانها .
وهذا القول عندي أولى بالصواب ، لأن لكل حرف من حروف المعاني وجها هو به أولى من غيره فلا يصلح تحويل ذلك عنه إلى غيره إلا بحجة يجب التسليم لها . ول " إلى " في كل موضع دخلت من الكلام حكم ، وغير جائز سلبها معانيها في أماكنها .