القول في
تأويل قوله جل ثناؤه : ( أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى )
قال
أبو جعفر : إن قال قائل : وكيف اشترى هؤلاء القوم الضلالة بالهدى ، وإنما كانوا منافقين لم يتقدم نفاقهم إيمان فيقال فيهم : باعوا هداهم الذي كانوا عليه بضلالتهم حتى استبدلوها منه ؟ وقد علمت أن معنى الشراء المفهوم : اعتياض شيء ببذل شيء مكانه عوضا منه ، والمنافقون الذين وصفهم الله بهذه الصفة ، لم يكونوا قط على هدى فيتركوه ويعتاضوا منه كفرا ونفاقا ؟
[ ص: 312 ]
قيل : قد اختلف أهل التأويل في معنى ذلك ، فنذكر ما قالوا فيه ، ثم نبين الصحيح من التأويل في ذلك إن شاء الله :
380 - حدثنا
محمد بن حميد ، قال : حدثنا
nindex.php?page=showalam&ids=13655سلمة بن الفضل ، عن
محمد بن إسحاق ، عن
محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت ، عن
عكرمة ، أو عن
سعيد بن جبير ، عن
ابن عباس : (
أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى ) ، أي الكفر بالإيمان .
381 - وحدثني
موسى بن هارون ، قال : حدثنا
عمرو ، قال : حدثنا
أسباط ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=14468السدي ، في خبر ذكره ، عن
أبي مالك ، وعن
أبي صالح ، عن
ابن عباس ، وعن
مرة ، عن
ابن مسعود ، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم : (
أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى ) ، يقول : أخذوا الضلالة وتركوا الهدى .
382 - حدثنا
بشر بن معاذ ، قال :
حدثنا يزيد ، عن
سعيد ، عن
قتادة : (
أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى ) ، استحبوا الضلالة على الهدى .
383 - حدثني
محمد بن عمرو ، قال : حدثنا
أبو عاصم ، قال : حدثنا
عيسى بن ميمون ، عن
ابن أبي نجيح ، عن
مجاهد في قوله : (
أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى ) ، آمنوا ثم كفروا .
384 - حدثنا
المثنى ، قال : حدثنا
أبو حذيفة ، قال : حدثنا
شبل ، عن
ابن أبي نجيح ، عن
مجاهد مثله .
قال
أبو جعفر : فكأن الذين قالوا في تأويل ذلك : " أخذوا الضلالة وتركوا الهدى " - وجهوا معنى الشراء إلى أنه أخذ المشترى مكان الثمن المشترى به ، فقالوا : كذلك المنافق والكافر ، قد أخذا مكان الإيمان الكفر ، فكان ذلك منهما شراء
[ ص: 313 ] للكفر والضلالة اللذين أخذاهما بتركهما ما تركا من الهدى ، وكان الهدى الذي تركاه هو الثمن الذي جعلاه عوضا من الضلالة التي أخذاها .
وأما الذين تأولوا أن معنى قوله " اشتروا " : " استحبوا " فإنهم لما وجدوا الله جل ثناؤه قد وصف الكفار في موضع آخر ، فنسبهم إلى استحبابهم الكفر على الهدى ، فقال : (
وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى ) [ سورة فصلت : 17 ] ، صرفوا قوله : (
اشتروا الضلالة بالهدى ) إلى ذلك . وقالوا : قد تدخل " الباء " مكان " على " و " على " مكان " الباء " كما يقال : مررت بفلان ، ومررت على فلان ، بمعنى واحد ، وكقول الله جل ثناؤه : (
ومن أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار يؤده إليك ) [ سورة آل عمران : 75 ] ، أي على قنطار . فكان تأويل الآية على معنى هؤلاء : أولئك الذين اختاروا الضلالة على الهدى . وأراهم وجهوا معنى قول الله جل ثناؤه " اشتروا " إلى معنى اختاروا ، لأن العرب تقول : اشتريت كذا على كذا ، واستريته - يعنون اخترته عليه .
ومن الاستراء قول
أعشى بني ثعلبة فقد أخرج الكاعب المسترا ة من خدرها وأشيع القمار
يعني بالمستراة : المختارة .
وقال
nindex.php?page=showalam&ids=15871ذو الرمة ، في الاشتراء بمعنى الاختيار :
يذب القصايا عن شراة كأنها جماهير تحت المدجنات الهواضب
.
يعني بالشراة : المختارة .
[ ص: 314 ]
وقال آخر في مثل ذلك :
إن الشراة روقة الأموال وحزرة القلب خيار المال
قال
أبو جعفر : وهذا ، وإن كان وجها من التأويل ، فلست له بمختار . لأن الله جل ثناؤه قال : (
فما ربحت تجارتهم ) ، فدل بذلك على أن معنى قوله (
أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى ) معنى الشراء الذي يتعارفه الناس ، من استبدال شيء مكان شيء ، وأخذ عوض على عوض .
وأما الذين قالوا : إن القوم كانوا مؤمنين وكفروا ، فإنه لا مئونة عليهم ، لو كان الأمر على ما وصفوا به القوم . لأن الأمر إذا كان كذلك ، فقد تركوا الإيمان ، واستبدلوا به الكفر عوضا من الهدى . وذلك هو المعنى المفهوم من معاني الشراء والبيع ، ولكن دلائل أول الآيات في نعوتهم إلى آخرها ، دالة على أن القوم لم يكونوا قط استضاءوا بنور الإيمان ، ولا دخلوا في ملة الإسلام ، أوما تسمع الله جل ثناؤه من لدن ابتدأ في نعتهم ، إلى أن أتى على صفتهم ، إنما وصفهم بإظهار الكذب بألسنتهم : بدعواهم التصديق بنبينا
محمد صلى الله عليه وسلم وبما جاء به ، خداعا لله ولرسوله وللمؤمنين عند أنفسهم ، واستهزاء في نفوسهم بالمؤمنين ، وهم لغير ما كانوا يظهرون مستبطنون . يقول الله جل جلاله : (
ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين ) ، ثم اقتص قصصهم إلى قوله : (
أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى ) ؟
[ ص: 315 ] فأين الدلالة على أنهم كانوا مؤمنين فكفروا ؟
فإن كان قائل هذه المقالة ظن أن قوله : "
أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى " هو الدليل على أن القوم قد كانوا على الإيمان فانتقلوا عنه إلى الكفر ، فلذلك قيل لهم " اشتروا " - فإن ذلك تأويل غير مسلم له ، إذ كان الاشتراء عند مخالفيه قد يكون أخذ شيء بترك آخر غيره ، وقد يكون بمعنى الاختيار ، وبغير ذلك من المعاني . والكلمة إذا احتملت وجوها ، لم يكن لأحد صرف معناها إلى بعض وجوهها دون بعض ، إلا بحجة يجب التسليم لها .
قال
أبو جعفر : والذي هو أولى عندي بتأويل الآية ، ما روينا عن
ابن عباس nindex.php?page=showalam&ids=10وابن مسعود من تأويلهما قوله : (
اشتروا الضلالة بالهدى ) : أخذوا الضلالة وتركوا الهدى . وذلك أن كل كافر بالله فإنه مستبدل بالإيمان كفرا ، باكتسابه الكفر الذي وجد منه ، بدلا من الإيمان الذي أمر به . أوما تسمع الله جل ثناؤه يقول فيمن اكتسب كفرا به مكان الإيمان به وبرسوله : (
ومن يتبدل الكفر بالإيمان فقد ضل سواء السبيل ) [ سورة البقرة : 108 ] وذلك هو معنى الشراء ، لأن كل مشتر شيئا فإنما يستبدل مكان الذي يؤخذ منه من البدل آخر بديلا منه . فكذلك المنافق والكافر ، استبدلا بالهدى الضلالة والنفاق ، فأضلهما الله ، وسلبهما نور الهدى ، فترك جميعهم في ظلمات لا يبصرون .