القول في تأويل
قوله : ( الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات )
قال
أبو جعفر : يعني - تعالى ذكره - بقوله : "
الله ولي الذين آمنوا " نصيرهم وظهيرهم ، يتولاهم بعونه وتوفيقه "
يخرجهم من الظلمات " يعني بذلك :
يخرجهم من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان . وإنما عنى ب " الظلمات " في هذا الموضع الكفر . وإنما جعل " الظلمات " للكفر مثلا ؛ لأن الظلمات حاجبة للأبصار عن إدراك الأشياء وإثباتها ، وكذلك الكفر حاجب أبصار القلوب عن إدراك حقائق الإيمان والعلم بصحته وصحة أسبابه . فأخبر - تعالى ذكره - عباده أنه ولي المؤمنين ، ومبصرهم حقيقة الإيمان وسبله وشرائعه وحججه ، وهاديهم ، فموفقهم لأدلته المزيلة عنهم الشكوك ، بكشفه عنهم دواعي الكفر ، وظلم سواتره [ عن ] أبصار القلوب .
[ ص: 425 ]
ثم أخبر - تعالى ذكره - عن أهل الكفر به ، فقال : " والذين كفروا " يعني الجاحدين وحدانيته " أولياؤهم " يعني نصراؤهم وظهراؤهم الذين يتولونهم " الطاغوت " يعني الأنداد والأوثان الذين يعبدونهم من دون الله " يخرجونهم من النور إلى الظلمات " يعني ب " النور " الإيمان ، على نحو ما بينا " إلى الظلمات "ويعني ب " الظلمات " ظلمات الكفر وشكوكه الحائلة دون أبصار القلوب ورؤية ضياء الإيمان وحقائق أدلته وسبله .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل :
ذكر من قال ذلك :
5856 - حدثنا
بشر بن معاذ قال : حدثنا
يزيد قال : حدثنا
سعيد ، عن
قتادة قوله : "
الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور " يقول : من الضلالة إلى الهدى "
والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت " الشيطان : "
يخرجونهم من النور إلى الظلمات " يقول : من الهدى إلى الضلالة .
5857 - حدثني
المثنى قال : حدثنا
إسحاق قال : حدثنا
أبو زهير ، عن
جويبر ، عن
الضحاك : "
الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور " الظلمات : الكفر ، والنور : الإيمان "
والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات " يخرجونهم من الإيمان إلى الكفر .
5858 - حدثت عن
عمار قال : حدثنا
ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن
الربيع ، في قوله - تعالى ذكره - : "
الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور " يقول : من الكفر إلى الإيمان "
والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات " يقول : من الإيمان إلى الكفر .
[ ص: 426 ]
5859 - حدثنا
ابن حميد قال : حدثنا
جرير ، عن
منصور ، عن
عبدة بن أبي لبابة ، عن
مجاهد أو
مقسم في قول الله : "
الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات " قال : كان قوم آمنوا
بعيسى ، وقوم كفروا به ، فلما بعث الله
محمدا - صلى الله عليه وسلم - آمن به الذين كفروا
بعيسى ، وكفر به الذين آمنوا
بعيسى أي : يخرج الذين كفروا
بعيسى إلى الإيمان
بمحمد - صلى الله عليه وسلم - "
والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت " آمنوا
بعيسى وكفروا
بمحمد - صلى الله عليه وسلم - قال : "
يخرجونهم من النور إلى الظلمات " .
5860 - حدثنا
المثنى قال : حدثنا
الحجاج بن المنهال قال : حدثنا
المعتمر بن سليمان قال : سمعت
منصورا ، عن رجل ، عن
عبدة بن أبي لبابة قال في هذه الآية : "
الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور " إلى "
أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون " قال : هم الذين كانوا آمنوا
بعيسى ابن مريم ، فلما جاءهم
محمد - صلى الله عليه وسلم - كفروا به ، وأنزلت فيهم هذه الآية .
قال
أبو جعفر : وهذا القول الذي ذكرناه عن
مجاهد وعبدة بن أبي لبابة [ ص: 427 ] يدل على أن الآية معناها الخصوص ، وأنها - إذ كان الأمر كما وصفنا - نزلت فيمن كفر من النصارى
بمحمد - صلى الله عليه وسلم - وفيمن آمن
بمحمد - صلى الله عليه وسلم - من عبدة الأوثان الذين لم يكونوا مقرين بنبوة
عيسى ، وسائر الملل التي كان أهلها يكذب
بعيسى .
فإن قال قائل : أوكانت النصارى على حق قبل أن يبعث
محمد - صلى الله عليه وسلم - فكذبوا به ؟
قيل : من كان منهم على ملة
عيسى ابن مريم - صلى الله عليه وسلم - فكان على حق ، وإياهم عنى الله - تعالى ذكره - بقوله : (
يا أيها الذين آمنوا آمنوا بالله ورسوله ) [ النساء : 136 ] .
فإن قال قائل : فهل يحتمل أن يكون قوله : "
والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات " أن يكون معنيا به غير الذين ذكر
مجاهد وعبدة : أنهم عنوا به من المؤمنين
بعيسى ، أو غير أهل الردة والإسلام ؟ .
قيل : نعم يحتمل أن يكون معنى ذلك : والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يحولون بينهم وبين الإيمان ، ويضلونهم فيكفرون ، فيكون تضليلهم إياهم حتى يكفروا إخراجا منهم لهم من الإيمان ، يعني صدهم إياهم عنه ، وحرمانهم إياهم خيره ، وإن لم يكونوا كانوا فيه قبل ، كقول الرجل : " أخرجني والدي من ميراثه " إذا ملك ذلك في حياته غيره ، فحرمه منه حظه ولم يملك ذلك القائل هذا
[ ص: 428 ] الميراث قط فيخرج منه ، ولكنه لما حرمه ، وحيل بينه وبين ما كان يكون له لو لم يحرمه ، قيل : " أخرجه منه " وكقول القائل : " أخرجني فلان من كتيبته " يعني لم يجعلني من أهلها ، ولم يكن فيها قط قبل ذلك . فكذلك قوله : " يخرجونهم من النور إلى الظلمات " محتمل أن يكون إخراجهم إياهم من الإيمان إلى الكفر على هذا المعنى ، وإن كان الذي قاله
مجاهد وغيره أشبه بتأويل الآية .
فإن قال لنا قائل : وكيف قال : "
والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور " فجمع خبر " الطاغوت " بقوله : " يخرجونهم " " والطاغوت " واحد ؟
قيل : إن " الطاغوت " اسم لجماع وواحد ، وقد يجمع " طواغيت " . وإذا جعل واحده وجمعه بلفظ واحد ، كان نظير قولهم : " رجل عدل ، وقوم عدل " " ورجل فطر وقوم فطر " وما أشبه ذلك من الأسماء التي تأتي موحدا في اللفظ واحدها وجمعها ، وكما قال
العباس بن مرداس :
فقلنا أسلموا إنا أخوكم فقد برئت من الإحن الصدور