القول في
تأويل قوله : ( فصرهن إليك )
قال
أبو جعفر : اختلفت القرأة في قراءة ذلك ، فقرأته عامة قرأة أهل
المدينة والحجاز والبصرة : (
فصرهن إليك ) بضم الصاد من قول القائل : " صرت إلى هذا الأمر " . إذا ملت إليه " أصور صورا " ويقال : " إني إليكم لأصور " أي : مشتاق مائل ، ومنه قول الشاعر :
الله يعلم أنا في تلفتنا يوم الفراق إلى أحبابنا صور
وهو جمع " أصور ، وصوراء ، وصور " مثل أسود وسوداء وسود " . ومنه قول
الطرماح :
[ ص: 496 ] عفائف إلا ذاك أو أن يصورها هوى ، والهوى للعاشقين صروع
يعني بقوله : " أو أن يصورها هوى " يميلها .
فمعنى قوله : (
فصرهن إليك ) اضممهن إليك ووجههن نحوك ، كما يقال : " صر وجهك إلي " أي أقبل به إلي . ومن وجه قوله : (
فصرهن إليك ) إلى هذا التأويل كان في الكلام عنده متروك قد ترك ذكره استغناء بدلالة الظاهر عليه . ويكون معناه حينئذ عنده : قال : (
فخذ أربعة من الطير فصرهن إليك ) ، ثم قطعهن ، (
ثم اجعل على كل جبل منهن جزءا ) .
وقد يحتمل أن يكون معنى ذلك إذا قرئ كذلك بضم " الصاد " : قطعهن ، كما قال
توبة بن الحمير :
فلما جذبت الحبل أطت نسوعه بأطراف عيدان شديد أسورها
فأدنت لي الأسباب حتى بلغتها بنهضي وقد كاد ارتقائي يصورها
[ ص: 497 ] يعني : يقطعها . وإذا كان ذلك تأويل قوله : ( فصرهن ) ، كان في الكلام تقديم وتأخير ، ويكون معناه : فخذ أربعة من الطير إليك فصرهن ويكون " إليك " من صلة " خذ " .
وقرأ ذلك جماعة من أهل
الكوفة : " فصرهن إليك " بالكسر ، بمعنى قطعهن .
وقد زعم جماعة من نحويي
الكوفة أنهم لا يعرفون : " فصرهن " ولا " فصرهن " بمعنى قطعهن في كلام العرب ، وأنهم لا يعرفون كسر " الصاد " وضمها في ذلك إلا بمعنى واحد ، وأنهما جميعا لغتان بمعنى " الإمالة " وأن كسر " الصاد " منها لغة في
هذيل وسليم ; وأنشدوا لبعض
بني سليم : .
وفرع يصير الجيد وحف كأنه على الليت قنوان الكروم الدوالح
[ ص: 498 ]
يعني بقوله : " يصير " يميل وأن أهل هذه اللغة يقولون : " صاره وهو يصيره صيرا " " وصر وجهك إلي " أي أمله ، كما تقول : " صره " .
وزعم بعض نحويي
الكوفة أنه لا يعرف لقوله : ( فصرهن ) ولا لقراءة من قرأ : " فصرهن " بضم " الصاد " وكسرها ، وجها في التقطيع ، إلا أن يكون " فصرهن إليك " في قراءة من قرأه بكسر " الصاد " من المقلوب ، وذلك أن تكون " لام " فعله جعلت مكان عينه ، وعينه مكان لامه ، فيكون من " صرى يصري صريا " فإن العرب تقول : " بات يصري في حوضه " : إذا استقى ، ثم قطع واستقى ، ومن ذلك قول الشاعر : .
صرت نطرة لو صادفت جوز دارع غدا والعواصي من دم الجوف تنعر
" صرت " قطعت نظرة ، ومنه قول الآخر :
يقولون إن الشأم يقتل أهله فمن لي إذا لم آته بخلود
تعرب آبائي ، فهلا صراهم من الموت أن لم يذهبوا وجدودي ! ؟
[ ص: 499 ]
يعني : قطعهم ، ثم نقلت ياؤها التي هي لام الفعل فجعلت عينا للفعل ، وحولت عينها فجعلت لامها ، فقيل : " صار يصير " كما قيل : " عثي يعثى عثا " ثم حولت لامها ، فجعلت عينها ، فقيل : " عاث يعيث .
فأما نحويو
البصرة فإنهم قالوا : (
فصرهن إليك ) سواء معناه إذا قرئ بالضم من الصاد وبالكسر في أنه معني به في هذا الموضع التقطيع . قالوا : وهما لغتان : إحداهما : " صار يصور " والأخرى : " صار يصير " واستشهدوا على ذلك ببيت
توبة بن الحمير الذي ذكرنا قبل . وببيت
المعلى بن جمال العبدي .
وجاءت خلعة دهس صفايا يصور عنوقها أحوى زنيم
[ ص: 500 ]
بمعنى : يفرق عنوقها ويقطعها . وببيت
خنساء :
لظلت الشم منها وهي تنصار
يعني بالشم : الجبال ، أنها تتصدع وتتفرق . وببيت
أبي ذؤيب :
فانصرن من فزع وسد فروجه غبر ضوار : وافيان وأجدع
قالوا : فلقول القائل : " صرت الشيء " معنيان : أملته ، وقطعته . وحكوا سماعا : " صرنا به الحكم " : فصلنا به الحكم .
[ ص: 501 ]
قال
أبو جعفر : وهذا القول الذي ذكرناه عن البصريين : من أن معنى الضم في " الصاد " من قوله : (
فصرهن إليك ) والكسر سواء بمعنى واحد - وأنهما لغتان ، معناهما في هذا الموضع : فقطعهن - وأن معنى " إليك " تقديمها قبل " فصرهن " من أجل أنها صلة قوله : " فخذ " أولى بالصواب من قول الذين حكينا قولهم من نحويي الكوفيين ، الذين أنكروا أن يكون للتقطيع في ذلك وجه مفهوم إلا على معنى القلب الذي ذكرت - لإجماع أهل التأويل على أن معنى قوله : ( فصرهن ) غير خارج من أحد معنيين : إما " قطعهن " وإما " اضممهن إليك " بالكسر قرئ ذلك أو بالضم . ففي إجماع جميعهم على ذلك على غير مراعاة منهم كسر الصاد وضمها ، ولا تفريق منهم بين معنيي القراءتين - أعني الكسر والضم - أوضح الدليل على صحة قول القائلين من نحويي أهل
البصرة في ذلك ما حكينا عنهم من القول ، وخطأ قول نحويي الكوفيين ; لأنهم لو كانوا إنما تأولوا قوله : ( فصرهن ) بمعنى فقطعهن ، على أن أصل الكلام " فاصرهن " ثم قلبت فقيل : " فصرهن " بكسر " الصاد " لتحول " ياء " " فاصرهن " مكان رائه ، وانتقال رائه مكان يائه ، لكان لا شك - مع معرفتهم بلغتهم وعلمهم بمنطقهم - قد فصلوا بين معنى ذلك إذا قرئ بكسر صاده ، وبينه إذا قرئ بضمها ، إذ كان غير جائز لمن قلب " فاصرهن " إلى " فصرهن " أن يقرأه " فصرهن " بضم " الصاد " وهم - مع اختلاف قراءتهم ذلك - قد تأولوه تأويلا واحدا على أحد الوجهين اللذين ذكرنا . ففي ذلك أوضح الدليل على خطأ قول من قال : إن ذلك إذا قرئ بكسر " الصاد " بتأويل التقطيع ، مقلوب من : " صري يصرى " إلى " صار يصير " وجهل من زعم أن قول القائل : " صار يصور " و " صار يصير " غير معروف في كلام العرب بمعنى قطع .
[ ص: 502 ]
ذكر من حضرنا قوله في تأويل قول الله - تعالى ذكره - : ( فصرهن ) أنه بمعنى : فقطعهن .
5994 - حدثنا
سليمان بن عبد الجبار قال : حدثنا
محمد بن الصلت قال : حدثنا
أبو كدينة ، عن
عطاء ، عن
سعيد بن جبير ، عن
ابن عباس : ( فصرهن ) قال : هي نبطية ، فشققهن .
5995 - حدثني
nindex.php?page=showalam&ids=12166محمد بن المثنى قال : حدثنا
محمد بن جعفر قال : حدثنا
شعبة ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=11969أبي جمرة ، عن
ابن عباس أنه قال في هذه الآية : (
فخذ أربعة من الطير فصرهن إليك ) ، قال : إنما هو مثل . قال : قطعهن ، ثم اجعلهن في أرباع الدنيا ، ربعا ههنا ، وربعا ههنا ، ثم ادعهن يأتينك سعيا .
5996 - حدثني
المثنى قال : حدثنا
عبد الله بن صالح قال : حدثني
معاوية ، عن
علي بن أبي طلحة ، عن
ابن عباس : ( فصرهن ) قال : قطعهن .
5997 - حدثني
يعقوب قال : حدثنا
هشيم قال : أخبرنا
حصين ، عن
أبي مالك في قوله : (
فصرهن إليك ) يقول : قطعهن .
5998 - حدثني
المثنى قال : حدثنا
nindex.php?page=showalam&ids=16715عمرو بن عون قال : أخبرنا
هشيم ، عن
حصين ، عن
أبي مالك مثله .
5999 - حدثنا
أبو كريب قال : حدثنا
يحيى بن يمان ، عن
أشعث ، عن
[ ص: 503 ] جعفر ، عن
سعيد : ( فصرهن ) قال : قال : جناح ذه عند رأس ذه ، ورأس ذه عند جناح ذه .
6000 - حدثنا
محمد بن عبد الأعلى قال : حدثنا
المعتمر بن سليمان ، عن أبيه ، قال : زعم
أبو عمرو ، عن
عكرمة في قوله : (
فصرهن إليك ) قال : قال
عكرمة بالنبطية : قطعهن .
6001 - حدثنا
أحمد بن إسحاق قال : حدثنا
أبو أحمد قال : حدثنا
إسرائيل ، عن
يحيى ، عن
مجاهد : (
فصرهن إليك ) قال : قطعهن .
6002 - حدثني
المثنى قال : حدثنا
أبو حذيفة قال : حدثنا
شبل ، عن
ابن أبي نجيح ، عن
مجاهد : (
فصرهن إليك ) انتفهن بريشهن ولحومهن تمزيقا ، ثم اخلط لحومهن بريشهن .
6003 - حدثني
محمد بن عمرو قال : حدثنا
أبو عاصم ، عن
عيسى ، عن
ابن أبي نجيح ، عن
مجاهد : (
فصرهن إليك ) قال : انتفهن بريشهن ولحومهن تمزيقا .
6004 - حدثنا
بشر بن معاذ قال : حدثنا
nindex.php?page=showalam&ids=17360يزيد بن زريع قال : حدثنا
سعيد ، عن
قتادة : (
فصرهن إليك ) أمر نبي الله - عليه السلام - أن يأخذ أربعة من الطير فيذبحهن ، ثم يخلط بين لحومهن وريشهن ودمائهن .
6005 - حدثنا
الحسن بن يحيى قال : أخبرنا
عبد الرزاق قال : أخبرنا
معمر ، عن
قتادة في قوله : (
فصرهن إليك ) قال : فمزقهن . قال : أمر أن يخلط الدماء بالدماء ، والريش بالريش ، "
ثم اجعل على كل جبل منهن جزءا " .
6006 - حدثت عن
الحسين بن الفرج قال : سمعت
أبا معاذ قال : أخبرنا
[ ص: 504 ] عبيد بن سليمان قال : سمعت
الضحاك : (
فصرهن إليك ) يقول : فشققهن ، وهو بالنبطية " صرى " وهو التشقيق .
6007 - حدثني
موسى قال : حدثنا
عمرو قال : حدثنا
أسباط ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=14468السدي : (
فصرهن إليك ) يقول قطعهن .
6008 - حدثت عن
عمار قال : حدثنا
ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن
الربيع في قوله : (
فصرهن إليك ) يقول : قطعهن إليك ومزقهن تمزيقا .
6009 - حدثنا
ابن حميد قال : حدثنا
سلمة ، عن
ابن إسحاق : (
فصرهن إليك ) أي قطعهن ، وهو " الصور " في كلام العرب .
قال
أبو جعفر : ففيما ذكرنا من أقوال - من روينا قوله في تأويل قوله : (
فصرهن إليك ) أنه بمعنى : فقطعهن إليك - دلالة واضحة على صحة ما قلنا في ذلك ، وفساد قول من خالفنا فيه .
وإذ كان ذلك كذلك ، فسواء قرأ القارئ ذلك بضم " الصاد " : " فصرهن " إليك أو كسرها " فصرهن " إذ كانت لغتين معروفتين بمعنى واحد . غير أن الأمر - وإن كان كذلك - فإن أحبهما إلي أن أقرأ به " فصرهن إليك " بضم " الصاد " ؛ لأنها أعلى اللغتين وأشهرهما ، وأكثرهما في أحياء العرب .
[ وأما قول من تأول قوله : (
فصرهن إليك ) بمعنى : اضممهن إليك ووجهن نحوك واجمعهن ، فهو قول قال به من أهل التأويل نفر قليل ] .
[ ص: 505 ]
ذكر من قال ذلك :
6010 - حدثني
محمد بن سعد قال : حدثني أبي ، قال : حدثني عمي ، قال : حدثني أبي ، عن أبيه ، عن
ابن عباس : (
فصرهن إليك ) " صرهن " : أوثقهن .
6011 - حدثنا
القاسم قال : حدثنا
الحسين قال : حدثني
حجاج ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=13036ابن جريج قال : قلت
لعطاء قوله : (
فصرهن إليك ) قال : اضممهن إليك .
6012 - حدثني
يونس قال : أخبرنا
ابن وهب قال : قال
ابن زيد : (
فصرهن إليك ) قال : اجمعهن .