القول في تأويل قوله تعالى (
فمثله كمثل صفوان عليه تراب فأصابه وابل فتركه صلدا لا يقدرون على شيء مما كسبوا والله لا يهدي القوم الكافرين ( 264 ) )
قال
أبو جعفر : يعني - تعالى ذكره - بذلك : فمثل هذا الذي ينفق ماله رئاء الناس ، ولا يؤمن بالله واليوم الآخر " والهاء " في قوله : ( فمثله ) عائدة على " الذي " (
كمثل صفوان ) " والصفوان " واحد وجمع ، فمن جعله جمعا فالواحدة " صفوانة " بمنزلة " تمرة وتمر " و " نخلة ونخل " . ومن جعله واحدا ، جمعه " صفوان ، وصفي ، وصفي " كما قال الشاعر : .
مواقع الطير على الصفي
[ ص: 524 ]
و " الصفوان " هو " الصفا " وهي الحجارة الملس .
وقوله : (
عليه تراب ) يعني : على الصفوان تراب ( فأصابه ) يعني : أصاب الصفوان ( وابل ) وهو المطر الشديد العظيم ، كما قال
امرؤ القيس :
ساعة ثم انتحاها وابل ساقط الأكناف واه منهمر
يقال منه : " وبلت السماء فهي تبل وبلا " وقد : " وبلت الأرض فهي توبل " .
وقوله : (
فتركه صلدا ) يقول : فترك الوابل الصفوان صلدا .
و " الصلد " من الحجارة : الصلب الذي لا شيء عليه من نبات ولا غيره ، وهو من الأرضين ما لا ينبت فيه شيء ، وكذلك من الرءوس ، كما قال
رؤبة :
لما رأتني خلق المموه براق أصلاد الجبين الأجله
[ ص: 525 ]
ومن ذلك يقال للقدر الثخينة البطيئة الغلي : " قدر صلود " " وقد صلدت تصلد صلودا ، ومنه قول
تأبط شرا :
ولست بجلب جلب رعد وقرة ولا بصفا صلد عن الخير أعزل
ثم رجع - تعالى ذكره - إلى ذكر المنافقين الذين ضرب المثل لأعمالهم ، فقال : فكذلك أعمالهم بمنزلة الصفوان الذي كان عليه تراب ، فأصابه الوابل من المطر ، فذهب بما عليه من التراب ، فتركه نقيا لا تراب عليه ولا شيء يراهم المسلمون في الظاهر أن لهم أعمالا - كما يرى التراب على هذا الصفوان - بما يراؤونهم به ، فإذا كان يوم القيامة وصاروا إلى الله ، اضمحل ذلك كله ؛ لأنه لم يكن لله ،
[ ص: 526 ] كما ذهب الوابل من المطر بما كان على الصفوان من التراب ، فتركه أملس لا شيء عليه
فذلك قوله : ( لا يقدرون ) يعني به : الذين ينفقون أموالهم رئاء الناس ، ولا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر يقول : لا يقدرون يوم القيامة على ثواب شيء مما كسبوا في الدنيا ؛ لأنهم لم يعملوا لمعادهم ، ولا لطلب ما عند الله في الآخرة ، ولكنهم عملوه رئاء الناس وطلب حمدهم ، وإنما حظهم من أعمالهم ما أرادوه وطلبوه بها .
ثم أخبر - تعالى ذكره - أنه (
لا يهدي القوم الكافرين ) ، يقول : لا يسددهم لإصابة الحق في نفقاتهم وغيرها فيوفقهم لها ، وهم للباطل عليها مؤثرون ، ولكنه يتركهم في ضلالتهم يعمهون .
فقال - تعالى ذكره - للمؤمنين : لا تكونوا كالمنافقين الذين هذا المثل صفة أعمالهم ، فتبطلوا أجور صدقاتكم بمنكم على من تصدقتم بها عليه وأذاكم لهم ، كما بطل أجر نفقة المنافق الذي أنفق ماله رئاء الناس ، وهو غير مؤمن بالله واليوم الآخر عند الله .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .
ذكر من قال ذلك :
6040 - حدثنا
بشر قال : حدثنا
يزيد قال : حدثنا
سعيد ، عن
قتادة قوله : (
يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى ) فقرأ حتى بلغ : (
على شيء مما كسبوا ) ، فهذا مثل ضربه الله لأعمال الكفار يوم القيامة يقول : لا يقدرون على شيء مما كسبوا يومئذ ، كما ترك هذا المطر الصفاة الحجر ليس
[ ص: 527 ] عليه شيء ، أنقى ما كان عليه .
6041 - حدثني
المثنى قال : حدثنا
إسحاق قال : حدثنا
ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن
الربيع : (
لا تبطلوا صدقاتكم بالمن ) إلى قوله : (
والله لا يهدي القوم الكافرين ) هذا مثل ضربه الله لأعمال الكافرين يوم القيامة يقول : لا يقدرون على شيء مما كسبوا يومئذ ، كما ترك هذا المطر الصفا نقيا لا شيء عليه .
6042 - حدثني
موسى قال : حدثنا
عمرو قال : حدثنا
أسباط ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=14468السدي : (
لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى ) إلى قوله : (
على شيء مما كسبوا ) أما الصفوان الذي عليه تراب فأصابه المطر فذهب ترابه فتركه صلدا . فكذلك هذا الذي ينفق ماله رياء الناس ، ذهب الرياء بنفقته ، كما ذهب هذا المطر بتراب هذا الصفا فتركه نقيا ، فكذلك تركه الرياء لا يقدر على شيء مما قدم . فقال للمؤمنين : (
لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى ) فتبطل كما بطلت صدقة الرياء .
6043 - حدثني
المثنى قال : حدثنا
إسحاق قال : حدثنا
أبو زهير ، عن
جويبر ، عن
الضحاك قال : أن لا ينفق الرجل ماله خير من أن ينفقه ثم يتبعه منا وأذى . فضرب الله مثله كمثل كافر أنفق ماله لا يؤمن بالله ولا باليوم الآخر ، فضرب الله مثلهما جميعا : (
كمثل صفوان عليه تراب فأصابه وابل فتركه صلدا ) فكذلك من أنفق ماله ثم أتبعه منا وأذى .
6044 - حدثني
محمد بن سعد قال : حدثني أبي ، قال : حدثني عمي ، قال : حدثني أبي ، عن أبيه ، عن
ابن عباس قوله : (
يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى ) إلى (
كمثل صفوان عليه تراب فأصابه وابل فتركه صلدا ) ليس عليه شيء ، وكذلك المنافق يوم القيامة لا يقدر على شيء مما كسب .
6045 - حدثنا
القاسم قال : حدثنا
الحسين قال : حدثني
حجاج قال :
[ ص: 528 ] قال
nindex.php?page=showalam&ids=13036ابن جريج في قوله : (
لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى ) قال : يمن بصدقته ويؤذيه فيها حتى يبطلها .
6046 - حدثني
يونس قال : أخبرنا
ابن وهب قال : قال
ابن زيد في قوله : (
ثم لا يتبعون ما أنفقوا منا ولا أذى ) ، فقرأ : (
يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى ) حتى بلغ : (
لا يقدرون على شيء مما كسبوا ) ثم قال : أترى الوابل يدع من التراب على الصفوان شيئا ؟ فكذلك منك وأذاك لم يدع مما أنفقت شيئا . وقرأ قوله : (
يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى ) ، وقرأ : (
وما أنفقتم من نفقة ) ، فقرأ حتى بلغ : (
وأنتم لا تظلمون ) . [ البقرة : 270 - 272 ] .