القول في
تأويل قوله : ( ولستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه
قال
أبو جعفر : يعني بذلك - جل ثناؤه - : ولستم بآخذي الخبيث في حقوقكم ، " والهاء " في قوله : " بآخذيه " من ذكر الخبيث " إلا أن تغمضوا فيه " يعني : إلا أن تتجافوا في أخذكم إياه عن بعض الواجب لكم من حقكم ، فترخصوا فيه لأنفسكم .
[ ص: 564 ]
يقال منه : " أغمض فلان لفلان عن بعض حقه ، فهو يغمض ، ومن ذلك قول
الطرماح بن حكيم :
لم يفتنا بالوتر قوم وللضي م رجال يرضون بالإغماض
قال
أبو جعفر : واختلف أهل التأويل في تأويل ذلك .
فقال بعضهم : معنى ذلك : ولستم بآخذي الرديء من غرمائكم في واجب حقوقكم قبلهم ، إلا عن إغماض منكم لهم في الواجب لكم عليهم .
ذكر من قال ذلك :
6150 - حدثنا
عصام بن رواد قال : حدثنا أبي ، قال : حدثنا
أبو بكر الهذلي ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=16972محمد بن سيرين ، عن
عبيدة قال : سألت
عليا عنه فقال : "
ولستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه " يقول : ولا يأخذ أحدكم هذا الرديء حتى يهضم له .
6151 - حدثنا
ابن بشار قال : حدثنا
مؤمل قال : حدثنا
سفيان ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=14468السدي ، عن
أبي مالك ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=48البراء بن عازب : "
ولستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه " يقول : لو كان لرجل على رجل ، فأعطاه ذلك لم يأخذه ، إلا أن يرى أنه قد نقصه من حقه .
[ ص: 565 ]
6152 - حدثني
المثنى قال : حدثنا
عبد الله قال : حدثنا
معاوية ، عن
علي ، عن
ابن عباس قوله : "
ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون ولستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه " يقول : لو كان لكم على أحد حق ، فجاءكم بحق دون حقكم ، لم تأخذوا بحساب الجيد حتى تنقصوه ، فذلك قوله : "
إلا أن تغمضوا فيه " فكيف ترضون لي ما لا ترضون لأنفسكم ، وحقي عليكم من أطيب أموالكم وأنفسها ؟ .
وهو قوله : ( لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون ) . [ سورة آل عمران : 92 ] .
6153 - حدثني
محمد بن عمرو قال :
حدثنا أبو عاصم ، عن
عيسى ، عن
ابن أبي نجيح ، عن
مجاهد ولستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه " قال : لا تأخذونه من غرمائكم ولا في بيوعكم إلا بزيادة على الطيب في الكيل .
6154 - حدثني
محمد بن سعد قال : حدثني أبي ، قال : حدثني عمي ، قال : حدثنا أبي ، عن أبيه ، عن
ابن عباس قوله : "
يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم ومما أخرجنا لكم من الأرض ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون ولستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه " وذلك أن رجالا كانوا يعطون زكاة أموالهم من التمر ، فكانوا يعطون الحشف في الزكاة ، فقال : لو كان بعضهم يطلب بعضا ثم قضاه ، لم يأخذه إلا أن يرى أنه قد أغمض عنه حقه .
6155 - حدثت عن
عمار قال : حدثنا
ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن
الربيع قوله : "
ولستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه " يقول : لو كان لك على رجل دين فقضاك أردأ مما كان لك عليه ، هل كنت تأخذ ذلك منه إلا وأنت له كاره ؟
6156 - حدثني
يحيى بن أبي طالب قال : حدثنا
يزيد قال : حدثنا
جويبر ، عن
الضحاك في قوله : "
يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم "
[ ص: 566 ] إلى قوله : "
إلا أن تغمضوا فيه " قال : كانوا - حين أمر الله أن يؤدوا الزكاة - يجيء الرجل من المنافقين بأردإ طعام له من تمر وغيره ، فكره الله ذلك وقال : "
أنفقوا من طيبات ما كسبتم ومما أخرجنا لكم من الأرض " يقول : "
لستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه " يقول : لم يكن رجل منكم له حق على رجل فيعطيه دون حقه فيأخذه ، إلا وهو يعلم أنه قد نقصه فلا ترضوا لي ما لا ترضون لأنفسكم فيأخذ شيئا وهو مغمض عليه أنقص من حقه .
وقال آخرون : معنى ذلك : ولستم بآخذي هذا الرديء الخبيث - إذا اشتريتموه من أهله - بسعر الجيد ، إلا بإغماض منهم لكم في ثمنه .
ذكر من قال ذلك :
6157 - حدثنا
ابن وكيع قال : حدثنا أبي ، عن
عمران بن حدير ، عن
الحسن : "
ولستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه " قال : لو وجدتموه في السوق يباع ، ما أخذتموه حتى يهضم لكم من ثمنه .
6158 - حدثنا
بشر قال : حدثنا
يزيد قال : حدثنا
سعيد ، عن
قتادة قوله : "
ولستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه " يقول : لستم بآخذي هذا الرديء بسعر هذا الطيب إلا أن يغمض لكم فيه .
وقال آخرون : معناه : ولستم بآخذي هذا الرديء الخبيث لو أهدي لكم ، إلا أن تغمضوا فيه ، فتأخذوه وأنتم له كارهون ، على استحياء منكم ممن أهداه لكم .
ذكر من قال ذلك :
6159 - حدثني
الحسين بن عمرو بن محمد العنقزي قال : حدثنا أبي ، عن
أسباط ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=14468السدي ، عن
عدي بن ثابت ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=48البراء بن عازب : "
ولستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه " قال : لو أهدي لكم ما قبلتموه إلا على استحياء من صاحبه ، أنه بعث إليك بما لم يكن له فيه حاجة .
[ ص: 567 ]
6160 - حدثني
موسى قال : حدثنا
عمرو قال : حدثنا
أسباط قال : زعم
nindex.php?page=showalam&ids=14468السدي ، عن
عدي بن ثابت ، عن
البراء نحوه ، إلا أنه قال : إلا على استحياء من صاحبه ، وغيظا أنه بعث إليك بما لم يكن له فيه حاجة .
وقال آخرون : معنى ذلك : ولستم بآخذي هذا الرديء من حقكم إلا أن تغمضوا من حقكم .
ذكر من قال ذلك :
6161 - حدثنا
ابن حميد قال : حدثنا
جرير ، عن
عطاء ، عن
ابن معقل : "
ولستم بآخذيه " يقول : ولستم بآخذيه من حق هو لكم "
إلا أن تغمضوا فيه " يقول : أغمض لك من حقي .
وقال آخرون : معنى ذلك : ولستم بآخذي الحرام إلا أن تغمضوا على ما فيه من الإثم عليكم في أخذه .
ذكر من قال ذلك :
6162 - حدثني
يونس قال : حدثنا
ابن وهب قال : قال
ابن زيد : وسألته عن قوله : "
ولستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه " قال : يقول : لست آخذا ذلك الحرام حتى تغمض على ما فيه من الإثم . قال : وفي كلام العرب : أما والله لقد أخذه ، ولقد أغمض على ما فيه ، وهو يعلم أنه حرام باطل .
قال
أبو جعفر : والذي هو أولى بتأويل ذلك عندنا أن يقال : إن الله - عز وجل - حث عباده على الصدقة وأداء الزكاة من أموالهم ، وفرضها عليهم فيها ، فصار ما فرض من ذلك في أموالهم حقا لأهل سهمان الصدقة . ثم أمرهم - تعالى ذكره - أن
[ ص: 568 ] يخرجوا من الطيب - وهو الجيد من أموالهم - الطيب . وذلك أن أهل السهمان شركاء أرباب الأموال في أموالهم ، بما وجب لهم فيها من الصدقة بعد وجوبها .
فلا شك أن كل شريكين في مال فلكل واحد منهما بقدر ملكه ، وليس لأحدهما منع شريكه من حقه من الملك الذي هو فيه شريكه ، بإعطائه - بمقدار حقه منه - من غيره مما هو أردأ منه أو أخس . فكذلك المزكي ماله حرم الله عليه أن يعطي أهل السهمان - مما وجب لهم في ماله من الطيب الجيد من الحق فصاروا فيه شركاء - من الخبيث الرديء غيره ، ويمنعهم ما هو لهم من حقوقهم في الطيب من ماله الجيد ، كما لو كان مال رب المال رديئا كله غير جيد ، فوجبت فيه الزكاة وصار أهل سهمان الصدقة فيه شركاء بما أوجب الله لهم فيه لم يكن عليه أن يعطيهم الطيب الجيد من غير ماله الذي منه حقهم .
فقال تبارك وتعالى لأرباب الأموال : زكوا من جيد أموالكم الجيد ، ولا تيمموا الخبيث الرديء تعطونه أهل سهمان الصدقة ، وتمنعونهم الواجب لهم من الجيد الطيب في أموالكم ، ولستم بآخذي الرديء لأنفسكم مكان الجيد الواجب لكم قبل من وجب لكم عليه ذلك من شركائكم وغرمائكم وغيرهم ، إلا عن إغماض منكم وهضم لهم وكراهة منكم لأخذه . يقول : ولا تأتوا من الفعل إلى من وجب له في أموالكم حق ، ما لا ترضون من غيركم أن يأتيه إليكم في حقوقكم الواجبة لكم في أموالهم .
فأما إذا تطوع الرجل بصدقة غير مفروضة ، فإني - وإن كرهت له أن يعطي فيها إلا أجود ماله وأطيبه ، لأن الله عز وجل أحق من تقرب إليه بأكرم الأموال
[ ص: 569 ] وأطيبها ، والصدقة قربان المؤمن - فلست أحرم عليه أن يعطي فيها غير الجيد ؛ لأن ما دون الجيد ربما كان أعم نفعا لكثرته ، أو لعظم خطره - وأحسن موقعا من المسكين ، وممن أعطيه قربة إلى الله عز وجل - من الجيد ؛ لقلته أو لصغر خطره وقلة جدوى نفعه على من أعطيه .
وبمثل ما قلنا في ذلك قال جماعة أهل العلم .
ذكر من قال ذلك :
6163 - حدثنا
nindex.php?page=showalam&ids=12461محمد بن عبد الملك بن أبي الشوارب قال : حدثنا
nindex.php?page=showalam&ids=17360يزيد بن زريع قال : حدثنا
سلمة بن علقمة ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=16972محمد بن سيرين قال : سألت
عبيدة عن هذه الآية
يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم ومما أخرجنا لكم من الأرض ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون ولستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه " قال : ذلك في الزكاة ، الدرهم الزائف أحب إلي من التمرة .
6164 - حدثني
يعقوب قال : حدثنا
nindex.php?page=showalam&ids=13382ابن علية قال : حدثنا
سلمة بن علقمة ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=16972محمد بن سيرين قال : سألت
عبيدة عن ذلك ، فقال : إنما ذلك في الزكاة ، والدرهم الزائف أحب إلي من التمرة .
6165 - حدثنا
أبو كريب قال : حدثنا
ابن إدريس ، عن
هشام ، عن
ابن سيرين قال : سألت
عبيدة عن هذه الآية : "
يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم ومما أخرجنا لكم من الأرض ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون ولستم بآخذيه " فقال
عبيدة : إنما هذا في الواجب ، ولا بأس أن يتطوع الرجل بالتمرة ، والدرهم الزائف خير من التمرة .
[ ص: 570 ]
6166 - حدثني
أبو السائب قال : حدثنا
ابن إدريس ، عن
هشام ، عن
ابن سيرين في قوله : "
ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون " قال : إنما هذا في الزكاة المفروضة ، فأما التطوع فلا بأس أن
يتصدق الرجل بالدرهم الزائف ، والدرهم الزائف خير من التمرة .