القول في تأويل قوله تعالى ( وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة )
قال
أبو جعفر : يعني - جل ثناؤه - بذلك : " وإن كان " ممن تقبضون منه من غرمائكم رءوس أموالكم " ذو عسرة " يعني : معسرا برءوس أموالكم التي كانت لكم عليهم قبل الإرباء ، فأنظروهم إلى ميسرتهم .
[ ص: 29 ]
وقوله : " ذو عسرة " مرفوع ب " كان " فالخبر متروك ، وهو ما ذكرنا . وإنما صلح ترك خبرها من أجل أن النكرات تضمر لها العرب أخبارها ، ولو وجهت " كان " في هذا الموضع ، إلى أنها بمعنى الفعل المكتفي بنفسه التام ، لكان وجها صحيحا ، ولم يكن بها حاجة حينئذ إلى خبر . فيكون تأويل الكلام عند ذلك : وإن وجد ذو عسرة من غرمائكم برءوس أموالكم ، فنظرة إلى ميسرة .
وقد ذكر أن ذلك في قراءة
أبي بن كعب : (
وإن كان ذا عسرة ) ، بمعنى وإن كان الغريم ذا عسرة " فنظرة إلى ميسرة " . وذلك وإن كان في العربية جائزا فغير جائز القراءة به عندنا ، لخلافه خطوط مصاحف المسلمين .
وأما قوله : (
فنظرة إلى ميسرة ) ، فإنه يعني : فعليكم أن تنظروه إلى ميسرة ، كما قال : (
فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام ) [ سورة البقرة : 196 ] ، وقد ذكرنا وجه رفع ما كان من نظائرها فيما مضى قبل ، فأغنى عن تكريره . .
و " الميسرة " المفعلة من " اليسر " مثل " المرحمة " و " المشأمة " .
ومعنى الكلام : وإن كان من غرمائكم ذو عسرة ، فعليكم أن تنظروه حتى يوسر بالدين الذي لكم ، فيصير من أهل اليسر به .
وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل .
[ ص: 30 ]
ذكر من قال ذلك :
6277 - حدثني
واصل بن عبد الأعلى قال : حدثنا
nindex.php?page=showalam&ids=17011محمد بن فضيل عن
nindex.php?page=showalam&ids=17347يزيد بن أبي زياد عن
مجاهد عن
ابن عباس في قوله : "
وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة " قال : نزلت في الربا .
6278 - حدثني
يعقوب قال : حدثنا
هشيم قال : حدثنا
هشام عن
ابن سيرين : أن رجلا خاصم رجلا إلى
شريح قال : فقضى عليه وأمر بحبسه ، قال : فقال رجل عند
شريح : إنه معسر ، والله يقول في كتابه : "
وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة " ! قال : فقال
شريح : إنما ذلك في الربا ! وإن الله قال في كتابه : (
إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل ) [ سورة النساء : 58 ] ولا يأمرنا الله بشيء ثم يعذبنا عليه .
6279 - حدثني
يعقوب قال : حدثنا
هشيم قال أخبرنا
مغيرة عن
إبراهيم في قوله : "
وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة " قال : ذلك في الربا .
6280 - حدثني
يعقوب قال : حدثنا
هشيم قال أخبرنا
مغيرة عن
الشعبي أن
الربيع بن خثيم كان له على رجل حق ، فكان يأتيه ويقوم على بابه ويقول : أي فلان ، إن كنت موسرا فأد ، وإن كنت معسرا فإلى ميسرة .
6281 - حدثنا
يعقوب قال : حدثنا
nindex.php?page=showalam&ids=13382ابن علية عن
أيوب عن
محمد قال : جاء رجل إلى
شريح فكلمه فجعل يقول : إنه معسر ، إنه معسر ! ! قال : فظننت أنه يكلمه في محبوس ، فقال
شريح : إن الربا كان في هذا الحي من
الأنصار ، [ ص: 31 ] فأنزل الله - عز وجل - : "
وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة " وقال الله - عز وجل - : (
إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها ) ، فما كان الله - عز وجل - يأمرنا بأمر ثم يعذبنا عليه ، أدوا الأمانات إلى أهلها .
6282 - حدثني
يعقوب قال : حدثنا
nindex.php?page=showalam&ids=13382ابن علية عن
سعيد عن
قتادة في قوله : "
وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة " قال : فنظرة إلى ميسرة برأس ماله .
6283 - حدثني
محمد بن سعد قال : حدثني أبي قال حدثني عمي قال حدثني أبي ، عن أبيه ، عن
ابن عباس : "
وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة " إنما أمر في الربا أن ينظر المعسر ، وليست النظرة في الأمانة ، ولكن يؤدي الأمانة إلى أهلها .
6284 - حدثني
موسى قال : حدثنا
عمرو بن حماد قال : حدثنا
أسباط عن
nindex.php?page=showalam&ids=14468السدي : "
وإن كان ذو عسرة فنظرة " برأس المال " إلى ميسرة " يقول : إلى غنى .
6285 - حدثنا
القاسم قال : حدثنا
الحسين قال حدثني
حجاج عن
nindex.php?page=showalam&ids=13036ابن جريج قال : قال
ابن عباس : "
وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة " هذا في شأن الربا .
6286 - حدثت عن
الحسين قال سمعت
أبا معاذ قال : أخبرنا
عبيد بن سليمان قال سمعت
الضحاك في قوله : (
وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة ) ، هذا في شأن الربا ، وكان أهل الجاهلية بها يتبايعون ، فلما أسلم من أسلم منهم ، أمروا أن يأخذوا رءوس أموالهم .
[ ص: 32 ]
6287 - حدثني
المثنى قال : حدثنا
عبد الله قال حدثني
معاوية عن
علي عن
ابن عباس : "
وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة " يعني المطلوب .
6288 - حدثني
ابن وكيع قال : حدثنا أبي ، عن
إسرائيل عن
جابر عن
أبي جعفر في قوله : "
وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة " قال : الموت .
6289 - حدثنا
أحمد بن إسحاق قال : حدثنا
أبو أحمد قال : حدثنا
إسرائيل عن
جابر عن
محمد بن علي مثله .
6290 - حدثني
المثنى قال : حدثنا
قبيصة بن عقبة قال : حدثنا
سفيان عن
المغيرة عن
إبراهيم : "
وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة " قال : هذا في الربا .
6291 - حدثنا
أحمد بن إسحاق قال : حدثنا
أبو أحمد قال : حدثنا
شريك عن
منصور عن
إبراهيم في الرجل يتزوج إلى الميسرة ، قال : إلى الموت ، أو إلى فرقة .
6292 - حدثنا
أحمد قال : حدثنا
أبو أحمد قال : حدثنا
هشيم عن
مغيرة عن
إبراهيم : "
فنظرة إلى ميسرة " قال : ذلك في الربا .
6293 - حدثنا
أحمد قال : حدثنا
أبو أحمد قال : حدثنا
مندل عن
ليث عن
مجاهد : "
فنظرة إلى ميسرة " قال : يؤخره ، ولا يزد عليه . وكان إذا حل دين أحدهم فلم يجد ما يعطيه ، زاد عليه وأخره .
6294 - وحدثني
أحمد بن حازم قال : حدثنا
أبو نعيم قال : حدثنا
مندل عن
ليث عن
مجاهد : "
وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة " قال : يؤخره ولا يزد عليه .
[ ص: 33 ]
وقال آخرون : هذه الآية عامة في كل من كان له قبل رجل معسر حق من أي وجهة كان ذلك الحق من دين حلال أو ربا .
ذكر من قال ذلك :
6295 - حدثني
يحيى بن أبي طالب قال أخبرنا
يزيد قال أخبرنا
جويبر عن
الضحاك قال : من كان ذا عسرة فنظرة إلى ميسرة ، وأن تصدقوا خير لكم . قال : وكذلك كل دين على مسلم ، فلا يحل لمسلم له دين على أخيه يعلم منه عسرة أن يسجنه ، ولا يطلبه حتى ييسره الله عليه . وإنما جعل النظرة في الحلال ، فمن أجل ذلك كانت الديون على ذلك .
6296 - حدثني
علي بن حرب قال : حدثنا
ابن فضيل عن
nindex.php?page=showalam&ids=17347يزيد بن أبي زياد عن
مجاهد عن
ابن عباس : "
وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة " قال : نزلت في الدين .
قال
أبو جعفر : والصواب من القول في قوله : " وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة " أنه معني به غرماء الذين كانوا أسلموا على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولهم عليهم ديون قد أربوا فيها في الجاهلية ، فأدركهم الإسلام قبل أن يقبضوها منهم ، فأمر الله بوضع ما بقي من الربا بعد ما أسلموا ، وبقبض رءوس أموالهم ، ممن كان منهم من غرمائهم موسرا ، أو إنظار من كان منهم معسرا برءوس أموالهم إلى ميسرتهم . فذلك حكم كل من
أسلم وله ربا قد أربى على غريم له ، فإن الإسلام يبطل عن غريمه ما كان له عليه من قبل الربا ، ويلزمه أداء رأس ماله - الذي كان أخذ منه ، أو لزمه
[ ص: 34 ] من قبل الإرباء - إليه ، إن كان موسرا . وإن كان معسرا ، كان منظرا برأس مال صاحبه إلى ميسرته ، وكان الفضل على رأس المال مبطلا عنه .
غير أن الآية وإن كانت نزلت فيمن ذكرنا ، وإياهم عنى بها ، فإن الحكم الذي حكم الله به من إنظاره المعسر برأس مال المربي بعد بطول الربا عنه حكم واجب لكل من كان عليه دين لرجل قد حل عليه ، وهو بقضائه معسر في أنه منظر إلى ميسرته ، لأن دين كل ذي دين ، في مال غريمه ، وعلى غريمه قضاؤه منه - لا في رقبته . فإذا عدم ماله ، فلا سبيل له على رقبته بحبس ولا بيع ، وذلك أن مال رب الدين لن يخلو من أحد وجوه ثلاثة : إما أن يكون في رقبة غريمه ، أو في ذمته يقضيه من ماله ، أو في مال له بعينه .
فإن يكن في مال له بعينه ، فمتى بطل ذلك المال وعدم فقد بطل دين رب المال ، وذلك ما لا يقوله أحد .
ويكون في رقبته ، فإن يكن كذلك ، فمتى عدمت نفسه فقد بطل دين رب الدين ، وإن خلف الغريم وفاء بحقه وأضعاف ذلك ، وذلك أيضا لا يقوله أحد .
فقد تبين إذا ، إذ كان ذلك كذلك ، أن دين رب المال في ذمة غريمه يقضيه من ماله ، فإذا عدم ماله فلا سبيل له على رقبته ، لأنه قد عدم ما كان عليه أن يؤدي منه حق صاحبه لو كان موجودا ، وإذا لم يكن على رقبته سبيل ، لم يكن إلى حبسه وهو معدوم بحقه سبيل ؛ لأنه غير مانعه حقا ، له إلى قضائه سبيل ، فيعاقب بمطله إياه بالحبس .