[ ص: 79 ] القول في تأويل قوله تعالى ( إلا أن تكون تجارة حاضرة تديرونها بينكم فليس عليكم جناح ألا تكتبوها )
قال
أبو جعفر : ثم استثنى جل ذكره مما نهاهم عنه أن يسأموه من اكتتاب كتب حقوقهم على غرمائهم بالحقوق التي لهم عليهم ما وجب لهم قبلهم من حق عن
مبايعة بالنقود الحاضرة يدا بيد ، فرخص لهم في ترك اكتتاب الكتب بذلك ؛ لأن كل واحد منهم - أعني من الباعة والمشترين - يقبض إذا كان الواجب بينهم فيما يتبايعونه نقدا ما وجب له قبل مبايعيه قبل المفارقة ، فلا حاجة لهم في ذلك إلى اكتتاب أحد الفريقين على الفريق الآخر كتابا بما وجب لهم قبلهم ، وقد تقابضوا الواجب لهم عليهم . فلذلك قال - تعالى ذكره - : "
إلا أن تكون تجارة حاضرة تديرونها بينكم " لا أجل فيها ولا تأخير ولا نساء "
فليس عليكم جناح أن لا تكتبوها " يقول : فلا حرج عليكم أن لا تكتبوها - يعني التجارة الحاضرة .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال جماعة من أهل التأويل .
ذكر من قال ذلك :
6400 - حدثني
موسى قال : حدثنا
عمرو قال : حدثنا
أسباط عن
nindex.php?page=showalam&ids=14468السدي قوله : "
إلا أن تكون تجارة حاضرة تديرونها بينكم " يقول : معكم بالبلد ترونها ، فتأخذ وتعطي ، فليس على هؤلاء جناح أن لا يكتبوها .
[ ص: 80 ]
6401 - حدثني
المثنى قال : حدثنا
إسحاق قال : حدثنا
أبو زهير عن
جويبر عن
الضحاك . " ولا تسأموا أن تكتبوه صغيرا أو كبيرا إلى أجله " إلى قوله : "
فليس عليكم جناح أن لا تكتبوها " قال : أمر الله أن لا تسأموا أن تكتبوه صغيرا أو كبيرا إلى أجله ، وأمر ما كان يدا بيد أن يشهد عليه ، صغيرا كان أو كبيرا ، ورخص لهم أن لا يكتبوه .
واختلفت القرأة في قراءة ذلك .
فقرأته عامة قرأة
الحجاز والعراق وعامة القرأة : (
إلا أن تكون تجارة حاضرة ) بالرفع .
وانفرد بعض قرأة
الكوفيين فقرأ به بالنصب . وذلك وإن كان جائزا في العربية ، إذ كانت العرب تنصب النكرات والمنعوتات مع " كان " وتضمر معها في " كان " مجهولا فتقول : " إن كان طعاما طيبا فأتنا به " وترفعها فتقول : " إن كان طعام طيب فأتنا به " فتتبع النكرة خبرها بمثل إعرابها فإن الذي أختار من القراءة ثم لا أستجيز القراءة بغيره الرفع في " التجارة الحاضرة " ؛ لإجماع القرأة على ذلك ، وشذوذ من قرأ ذلك نصبا عنهم ، ولا يعترض بالشاذ على الحجة . ومما جاء نصبا قول الشاعر :
أعيني هلا تبكيان عفاقا إذا كان طعنا بينهم وعناقا
[ ص: 81 ]
وقول الآخر :
ولله قومي أي قوم لحرة إذا كان يوما ذا كواكب أشنعا
! !
وإنما تفعل العرب ذلك في النكرات ، لما وصفنا من إتباع أخبار النكرات أسماءها . و " كان " من حكمها أن يكون معها مرفوع ومنصوب ، فإذا رفعوهما جميعهما ، تذكروا إتباع النكرة خبرها ، وإذا نصبوهما تذكروا صحبة " كان " لمنصوب ومرفوع . ووجدوا النكرة يتبعها خبرها ، وأضمروا في " كان " مجهولا لاحتمالها الضمير .
وقد ظن بعض الناس أن من قرأ ذلك : " إلا أن تكون تجارة حاضرة " إنما قرأه على معنى : إلا أن يكون تجارة حاضرة ، فزعم أنه كان يلزم قارئ ذلك أن يقرأ " يكون " بالياء ، وأغفل موضع صواب قراءته من جهة الإعراب ، وألزمه غير ما يلزمه . وذلك أن العرب إذا جعلوا مع " كان " نكرة مؤنثا بنعتها أو خبرها ، أنثوا " كان " مرة ، وذكروها أخرى ، فقالوا : " إن كانت جارية صغيرة فاشتروها ، وإن كان جارية صغيرة فاشتروها " تذكر " كان " - وإن نصبت النكرة المنعوتة أو رفعت - أحيانا ، وتؤنث أحيانا .
[ ص: 82 ]
وقد زعم بعض نحويي
البصرة أن قوله : "
إلا أن تكون تجارة حاضرة " مرفوعة فيه " التجارة الحاضرة " لأن " تكون " بمعنى التمام ، ولا حاجة بها إلى الخبر ، بمعنى : إلا أن توجد أو تقع أو تحدث . فألزم نفسه ما لم يكن لها لازما ، لأنه إنما ألزم نفسه ذلك ، إذ لم يكن يجدك ل " كان " منصوبا ، ووجد " التجارة الحاضرة " مرفوعة ، وأغفل جواز قوله : " تديرونها بينكم " أن يكون خبرا ل " كان " فيستغني بذلك عن إلزام نفسه ما ألزم .
والذي قال من حكينا قوله من
البصريين غير خطأ في العربية ، غير أن الذي قلنا بكلام العرب أشبه وفي المعنى أصح : وهو أن يكون في قوله : " تديرونها بينكم " وجهان : أحدهما أنه في موضع نصب ، على أنه حل محل خبر " كان " و " التجارة الحاضرة " اسمها . والآخر : أنه في موضع رفع على إتباع " التجارة الحاضرة " لأن خبر النكرة يتبعها . فيكون تأويله : إلا أن تكون تجارة حاضرة دائرة بينكم .