[ ص: 233 ] القول في
تأويل قوله ( يرونهم مثليهم رأي العين )
قال
أبو جعفر : اختلفت القرأة في قراءة ذلك .
فقرأته قرأة
أهل المدينة : ( ترونهم ) بالتاء ، بمعنى : قد كان لكم أيها
اليهود آية في فئتين التقتا ، فئة تقاتل في سبيل الله ، والأخرى كافرة ، ترون المشركين مثلي المسلمين رأي العين . يريد بذلك عظتهم ، يقول : إن لكم عبرة ، أيها
اليهود ، فيما رأيتم من قلة عدد المسلمين وكثرة عدد المشركين ، وظفر هؤلاء مع قلة عددهم بهؤلاء مع كثرة عددهم .
وقرأ ذلك عامة قرأة
الكوفة والبصرة وبعض المكيين : (
يرونهم مثليهم ) بالياء ، بمعنى : يرى المسلمون الذين يقاتلون في سبيل الله الجماعة الكافرة مثلي المسلمين في القدر . فتأويل الآية على قراءتهم : قد كان لكم ، يا معشر
اليهود ، عبرة ومتفكر في فئتين التقتا : فئة تقاتل في سبيل الله وأخرى كافرة ، يرى هؤلاء المسلمون مع قلة عددهم هؤلاء المشركين في كثرة عددهم .
فإن قال قائل : وما وجه تأويل قراءة من قرأ ذلك بالياء ؟ وأي الفئتين رأت صاحبتها مثليها ؟ الفئة المسلمة هي التي رأت المشركة مثليها ، أم المشركة هي التي رأت المسلمة كذلك ، أم غيرهما رأت إحداهما كذلك ؟
قيل : اختلف أهل التأويل في ذلك .
فقال بعضهم : الفئة التي رأت الأخرى مثلي أنفسها الفئة المسلمة رأت عدد الفئة المشركة مثلي عدد الفئة المسلمة ، قللها الله - عز وجل - في أعينها حتى رأتها مثلي عدد أنفسها ، ثم قللها في حال أخرى فرأتها مثل عدد أنفسها .
[ ص: 234 ]
ذكر من قال ذلك :
6681 - حدثنا
موسى قال : حدثنا
عمرو قال : حدثنا
أسباط عن
nindex.php?page=showalam&ids=14468السدي في خبر ذكره ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=17058مرة الهمداني عن
ابن مسعود : "
قد كان لكم آية في فئتين التقتا فئة تقاتل في سبيل الله وأخرى كافرة يرونهم مثليهم رأي العين " قال : هذا يوم
بدر . قال
nindex.php?page=showalam&ids=10عبد الله بن مسعود : قد نظرنا إلى المشركين ، فرأيناهم يضعفون علينا ، ثم نظرنا إليهم فما رأيناهم يزيدون علينا رجلا واحدا ، وذلك قول الله - عز وجل - : (
وإذ يريكموهم إذ التقيتم في أعينكم قليلا ويقللكم في أعينهم ) [ سورة الأنفال : 44 ]
فمعنى الآية على هذا التأويل : قد كان لكم ، يا معشر
اليهود ، آية في فئتين التقتا : إحداهما مسلمة والأخرى كافرة ، كثير عدد الكافرة ، قليل عدد المسلمة ، ترى الفئة القليل عددها الكثير عددها أمثالا أنها إنما تكثر من العدد بمثل واحد ، فهم يرونهم مثليهم . فيكون أحد المثلين عند ذلك : العدد الذي هو مثل عدد الفئة التي رأتهم ، والمثل الآخر الضعف الزائد على عددهم . فهذا أحد معنيي التقليل الذي أخبر الله - عز وجل - المؤمنين أنه قللهم في أعينهم .
والمعنى الآخر منه : التقليل الثاني ، على ما قاله
ابن مسعود : وهو أن أراهم عدد المشركين مثل عددهم ، لا يزيدون عليهم . فذلك التقليل الثاني الذي قال الله - جل ثناؤه - : (
وإذ يريكموهم إذ التقيتم في أعينكم قليلا ) .
وقال آخرون من أهل هذه المقالة : إن الذين رأوا المشركين مثلي أنفسهم ، هم
[ ص: 235 ] المسلمون . غير أن المسلمين رأوهم على ما كانوا به من عددهم لم يقللوا في أعينهم ، ولكن الله أيدهم بنصره . قالوا : ولذلك قال الله - عز وجل -
لليهود : قد كان لكم فيهم عبرة ، يخوفهم بذلك أن يحل بهم منهم مثل الذي أحل بأهل
بدر على أيديهم .
ذكر من قال ذلك :
6682 - حدثنا
محمد بن سعد قال حدثني أبي قال حدثني عمي قال حدثني أبي ، عن أبيه ، عن
ابن عباس : "
قد كان لكم آية في فئتين التقتا فئة تقاتل في سبيل الله وأخرى كافرة " أنزلت في التخفيف يوم
بدر ، فإن المؤمنين كانوا يومئذ ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلا وكان المشركون مثليهم ، فأنزل الله عز وجل : "
قد كان لكم آية في فئتين التقتا فئة تقاتل في سبيل الله وأخرى كافرة يرونهم مثليهم رأي العين " وكان المشركون ستة وعشرين وستمائة ، فأيد الله المؤمنين . فكان هذا الذي في التخفيف على المؤمنين .
قال
أبو جعفر : وهذه الرواية خلاف ما تظاهرت به
الأخبار عن عدة المشركين يوم بدر . وذلك أن الناس إنما اختلفوا في عددهم على وجهين .
فقال بعضهم : كان عددهم ألفا وقال بعضهم : ما بين التسعمائة إلى الألف .
ذكر من قال : " كان عددهم ألفا " .
6683 - حدثني
nindex.php?page=showalam&ids=17221هارون بن إسحاق الهمداني قال : حدثنا
مصعب بن المقدام قال : حدثنا
إسرائيل قال : حدثنا
أبو إسحاق عن
حارثة عن
علي قال :
nindex.php?page=hadith&LINKID=810254سار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى بدر ، فسبقنا المشركين إليها ، فوجدنا فيها رجلين ، منهم ، رجل من قريش ومولى لعقبة بن أبي معيط . فأما القرشي فانفلت ، وأما مولى [ ص: 236 ] عقبة فأخذناه ، فجعلنا نقول : كم القوم ؟ فيقول : هم والله كثير شديد بأسهم ! فجعل المسلمون إذا قال ذلك ضربوه ، حتى انتهوا به إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال له : كم القوم ؟ فقال : هم والله كثير شديد بأسهم ! فجهد النبي - صلى الله عليه وسلم - على أن يخبره كم هم ، فأبى . ثم إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سأله : " كم ينحرون من الجزر ؟ قال : عشرة كل يوم . قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : القوم ألف .
6684 - حدثني
أبو سعيد بن يوشع البغدادي قال : حدثنا
إسحاق بن منصور عن
إسرائيل عن
أبي إسحاق عن
أبي عبيدة عن
عبد الله قال : أسرنا رجلا منهم - يعني من المشركين - يوم
بدر ، فقلنا : كم كنتم ؟ قال : ألفا .
ذكر من قال : " كان عددهم ما بين التسعمائة إلى الألف " :
6685 - حدثنا
ابن حميد قال : حدثنا
سلمة قال قال
ابن إسحاق : حدثني
يزيد بن رومان عن
عروة بن الزبير قال :
بعث النبي - صلى الله عليه وسلم - نفرا من أصحابه إلى ماء بدر يلتمسون الخبر له عليه ، فأصابوا راوية من قريش : فيها أسلم ، غلام بني الحجاج ، وعريض أبو يسار غلام بني العاص . فأتوا بهما [ ص: 237 ] رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لهما : كم القوم ؟ قالا كثير ! قال : ما عدتهم ؟ قالا لا ندري ! قال : كم ينحرون كل يوم ؟ قالا يوما تسعا ، ويوما عشرا . قال : رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : القوم ما بين التسعمائة إلى الألف .
6686 - حدثنا
بشر قال : حدثنا
يزيد قال : حدثنا
سعيد عن
قتادة قوله : "
قد كان لكم آية في فئتين التقتا فئة تقاتل في سبيل الله وأخرى كافرة يرونهم مثليهم رأي العين " ذلكم يوم
بدر ، ألف المشركون أو قاربوا ، وكان أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثلاثمائة وبضعة عشر رجلا .
6687 - حدثنا
الحسن بن يحيى قال أخبرنا
عبد الرزاق قال أخبرنا
معمر عن
قتادة في قوله : "
قد كان لكم آية في فئتين التقتا فئة " إلى قوله : " رأي العين " قال : يضعفون عليهم ، فقتلوا منهم سبعين وأسروا سبعين ، يوم
بدر .
6688 - حدثنا
المثنى قال : حدثنا
إسحاق قال : حدثنا
ابن أبي جعفر عن أبيه ، عن
الربيع في قوله : "
قد كان لكم آية في فئتين التقتا فئة تقاتل في سبيل الله وأخرى كافرة يرونهم مثليهم رأي العين " قال : كان ذلك يوم
بدر ، وكان المشركون تسعمائة وخمسين ، وكان أصحاب
محمد - صلى الله عليه وسلم - ثلاثمائة وثلاثة عشر .
6689 - حدثني
القاسم قال : حدثنا
الحسين قال حدثني
حجاج قال : قال
nindex.php?page=showalam&ids=13036ابن جريج : كان أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثلاثمائة وبضعة عشر ، والمشركون ما بين التسعمائة إلى الألف .
[ ص: 238 ]
قال
أبو جعفر : فكل هؤلاء الذين ذكرنا مخالفون القول الذي رويناه عن
ابن عباس في عدد المشركين يوم
بدر . فإذ كان ما قاله من حكينا قوله - ممن ذكر أن عددهم كان زائدا على التسعمائة - [ صحيحا ] ، فالتأويل الأول الذي قلناه على الرواية التي روينا عن
ابن مسعود ، أولى بتأويل الآية .
وقال آخرون : كان عدد المشركين زائدا على التسعمائة ، فرأى المسلمون عددهم على غير ما كانوا به من العدد . وقالوا : أرى الله المسلمين عدد المشركين قليلا آية للمسلمين . قالوا : وإنما عنى الله - عز وجل - بقوله : " يرونهم مثليهم " المخاطبين بقوله : "
قد كان لكم آية في فئتين " . قالوا : وهم
اليهود ، غير أنه رجع من المخاطبة إلى الخبر عن الغائب ، لأنه أمر من الله - جل ثناؤه - لنبيه - صلى الله عليه وسلم - أن يقول ذلك لهم ، فحسن أن يخاطب مرة ، ويخبر عنهم على وجه الخبر مرة أخرى ، كما قال : (
حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم بريح طيبة ) [ سورة يونس : 22 ]
وقالوا : فإن قال لنا قائل : فكيف قيل : " يرونهم مثليهم رأي العين " وقد علمتم أن المشركين كانوا يومئذ ثلاثة أمثال المسلمين ؟
قلنا لهم : كما يقول القائل وعنده عبد : " أحتاج إلى مثله " فأنت محتاج إليه وإلى مثله ، ثم يقول : " أحتاج إلى مثليه " فيكون ذلك خبرا عن حاجته إلى مثله ، وإلى مثلي ذلك المثل . وكما يقول الرجل : " معي ألف وأحتاج
[ ص: 239 ] إلى مثليه " . فهو محتاج إلى ثلاثة . فلما نوى أن يكون " الألف " داخلا في معنى " المثل " صار " المثل " اثنين ، والاثنان ثلاثة . قال : ومثله في الكلام : " أراكم مثلكم " كأنه قال : أراكم ضعفكم " وأراكم مثليكم " . يعني : أراكم ضعفيكم . قالوا : فهذا على معنى ثلاثة أمثالهم .
وقال آخرون : بل معنى ذلك : أن الله أرى الفئة الكافرة عدد الفئة المسلمة مثلي عددهم .
وهذا أيضا خلاف ما دل عليه ظاهر التنزيل ؛ لأن الله - جل ثناؤه - قال في كتابه : (
وإذ يريكموهم إذ التقيتم في أعينكم قليلا ويقللكم في أعينهم ) [ سورة الأنفال : 44 ] ، فأخبر أن كلا من الطائفتين قلل عددها في مرأى الأخرى .
قال
أبو جعفر : وقرأ آخرون ذلك : ( ترونهم ) بضم التاء ، بمعنى : يريكموهم الله مثليهم .
قال
أبو جعفر : وأولى هذه القراءات بالصواب قراءة من قرأ : " يرونهم " بالياء ، بمعنى : وأخرى كافرة يراهم المسلمون مثليهم - يعني : مثلي عدد
[ ص: 240 ] المسلمين ، لتقليل الله إياهم في أعينهم في حال ، فكان حزرهم إياهم كذلك ، ثم قللهم في أعينهم عن التقليل الأول ، فحزروهم مثل عدد المسلمين ، ثم تقليلا ثالثا ، فحزروهم أقل من عدد المسلمين ، كما : -
6690 - حدثني
nindex.php?page=showalam&ids=12024أبو سعيد البغدادي قال : حدثنا
إسحاق بن منصور عن
إسرائيل عن
أبي إسحاق عن
أبي عبيدة عن
عبد الله قال : لقد قللوا في أعيننا يوم
بدر ، حتى قلت لرجل إلى جنبي : تراهم سبعين ؟ قال : أراهم مائة . قال : فأسرنا رجلا منهم فقلنا : كم كنتم ؟ قال : ألفا .
وقد روي عن
قتادة أنه كان يقول : لو كانت : " ترونهم " لكانت " مثليكم " .
6691 - حدثني
المثنى قال حدثني
عبد الرحمن بن أبي حماد عن
ابن المبارك عن
معمر عن
قتادة بذلك .
قال
أبو جعفر : ففي الخبرين اللذين روينا عن
nindex.php?page=showalam&ids=10عبد الله بن مسعود ، ما أبان عن اختلاف حزر المسلمين يومئذ عدد المشركين في الأوقات المختلفة ، فأخبر الله - عز وجل - - عما كان من اختلاف أحوال عددهم عند المسلمين -
اليهود ، على
[ ص: 241 ] ما كان به عندهم ، مع علم
اليهود بمبلغ عدد الفئتين إعلاما منه لهم أنه مؤيد المؤمنين بنصره ، لئلا يغتروا بعددهم وبأسهم ، وليحذروا منه أن يحل بهم من العقوبة على أيدي المؤمنين ، مثل الذي أحل بأهل الشرك به من
قريش على أيديهم
ببدر .
وأما قوله : " رأي العين " فإنه مصدر " رأيته " يقال : " رأيته رأيا ورؤية " و " رأيت في المنام رؤيا حسنة " غير مجراة . يقال : " هو مني رأي العين ، ورئاء العين " بالنصب والرفع ، يراد : حيث يقع عليه بصري ، وهو من " الرأي " مثله . و " القوم رئاء " إذا جلسوا حيث يرى بعضهم بعضا .
فمعنى ذلك : يرونهم - حيث تلحقهم أبصارهم وتراهم عيونهم - مثليهم .