القول في تأويل قوله ( ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك )
قال
أبو جعفر : يعني - جل ثناؤه - بقوله ذلك : الأخبار التي أخبر بها عباده عن
امرأة عمران وابنتها
مريم ، وزكريا وابنه
يحيى ، وسائر ما قص في الآيات من قوله : "
إن الله اصطفى آدم ونوحا " ثم جمع جميع ذلك تعالى ذكره بقوله : " ذلك " فقال : هذه الأنباء من " أنباء الغيب " أي : من أخبار الغيب .
ويعني ب " الغيب " أنها من خفي أخبار القوم التي لم تطلع أنت ، يا
محمد ، عليها ولا قومك ، ولم يعلمها إلا قليل من أحبار أهل الكتابين ورهبانهم .
ثم أخبر تعالى ذكره نبيه
محمدا - صلى الله عليه وسلم - أنه أوحى ذلك إليه ، حجة على نبوته ، وتحقيقا لصدقه ، وقطعا منه به عذر منكري رسالته من كفار أهل الكتابين ، الذين يعلمون أن
محمدا لم يصل إلى علم هذه الأنباء مع خفائها ، ولم يدرك معرفتها مع خمولها عند أهلها ، إلا بإعلام الله ذلك إياه . إذ كان معلوما عندهم أن
محمدا - صلى الله عليه وسلم - أمي لا يكتب فيقرأ الكتب ، فيصل إلى علم ذلك من
[ ص: 405 ] قبل الكتب ، ولا صاحب أهل الكتب فيأخذ علمه من قبلهم .
وأما " الغيب " فمصدر من قول القائل : " غاب فلان عن كذا فهو يغيب عنه غيبا وغيبة " .
وأما قوله : " نوحيه إليك " فإن تأويله : ننزله إليك .
وأصل " الإيحاء " إلقاء الموحي إلى الموحى إليه .
وذلك قد يكون بكتاب وإشارة وإيماء ، وبإلهام ، وبرسالة ، كما قال - جل ثناؤه - : (
وأوحى ربك إلى النحل ) [ سورة النحل : 68 ] ، بمعنى : ألقى ذلك إليها فألهمها ، وكما قال : (
وإذ أوحيت إلى الحواريين ) [ سورة المائدة : 111 ] ، بمعنى : ألقيت إليهم علم ذلك إلهاما ، وكما قال الراجز :
أوحى لها القرار فاستقرت
بمعنى ألقى إليها ذلك أمرا ، وكما قال - جل ثناؤه - : (
فأوحى إليهم أن سبحوا بكرة وعشيا ) [ سورة مريم : 11 ] ، بمعنى : فألقى ذلك إليهم إيماء . والأصل
[ ص: 406 ] فيه ما وصفت ، من إلقاء ذلك إليهم . وقد يكون إلقاؤه ذلك إليهم إيماء ، ويكون بكتاب . ومن ذلك قوله : (
وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ) [ سورة الأنعام : 121 ] ، يلقون إليهم ذلك وسوسة ، وقوله : (
وأوحي إلي هذا القرآن لأنذركم به ومن بلغ ) [ سورة الأنعام : 19 ] ، ألقى إلي بمجيء
جبريل عليه السلام به إلي من عند الله - عز وجل - .
وأما " الوحي " فهو الواقع من الموحي إلى الموحى إليه ، ولذلك سمت العرب الخط والكتاب " وحيا " لأنه واقع فيما كتب ثابت فيه ، كما قال
كعب بن زهير :
أتى العجم والآفاق منه قصائد بقين بقاء الوحي في الحجر الأصم
يعني به : الكتاب الثابت في الحجر . وقد يقال في الكتاب خاصة ، إذا كتبه الكاتب : " وحى " بغير ألف ، ومنه قول
رؤبة :
كأنه بعد رياح تدهمه ومرثعنات الدجون تثمه
إنجيل أحبار وحى منمنمه