القول في تأويل قوله ( وأحيي الموتى بإذن الله وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم )
قال
أبو جعفر : وكان
إحياء عيسى الموتى بدعاء الله ، يدعو لهم ، فيستجيب له ، كما : -
7098 - حدثني
محمد بن سهل بن عسكر قال : حدثنا
إسماعيل بن عبد الكريم قال : حدثني
عبد الصمد بن مغفل : أنه سمع
nindex.php?page=showalam&ids=17285وهب بن منبه يقول : لما صار
عيسى ابن اثنتي عشرة سنة ، أوحى الله إلى أمه وهي بأرض
مصر ، وكانت هربت من قومها حين ولدته إلى أرض
مصر : أن اطلعي به إلى
الشام . ففعلت الذي أمرت به . فلم تزل
بالشام حتى كان ابن ثلاثين سنة ، وكانت نبوته ثلاث سنين ، ثم رفعه الله إليه قال : وزعم وهب أنه ربما اجتمع على
عيسى من المرضى
[ ص: 432 ] في الجماعة الواحدة خمسون ألفا ، من أطاق منهم أن يبلغه بلغه ، ومن لم يطق منهم ذلك أتاه
عيسى يمشي إليه ، وإنما كان يداويهم بالدعاء إلى الله .
وأما قوله : "
وأنبئكم بما تأكلون " فإنه يعني : وأخبركم بما تأكلون ، مما لم أعاينه وأشاهده معكم في وقت أكلكموه " وما تدخرون " يعني بذلك : وما ترفعونه فتخبأونه ولا تأكلونه .
يعلمهم أن من حجته أيضا على نبوته مع المعجزات التي أعلمهم أنه يأتي بها حجة على نبوته وصدقه في خبره أن الله أرسله إليهم : من خلق الطير من الطين ، وإبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى بإذن الله ، التي لا يطيقها أحد من البشر ، إلا من أعطاه الله ذلك علما له على صدقه ، وآية له على حقيقة قوله ، من أنبيائه ورسله ، ومن أحب من خلقه إنباءه الغيب الذي لا سبيل لأحد من البشر الذين سبيلهم سبيله ، عليه .
قال
أبو جعفر : فإن قال قائل : وما كان في قوله لهم : " وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم " من الحجة له على صدقه ، وقد رأينا المتنجمة والمتكهنة تخبر بذلك كثيرا فتصيب ؟
قيل : إن المتنجم والمتكهن معلوم منهما عند من يخبرانه بذلك ، أنهما ينبئان به عن استخراج له ببعض الأسباب المؤدية إلى علمه . ولم يكن ذلك كذلك من
عيسى صلوات الله عليه ومن سائر أنبياء الله ورسله ، وإنما كان
عيسى يخبر به عن غير استخراج ، ولا طلب لمعرفته باحتيال ، ولكن ابتداء بإعلام الله إياه ،
[ ص: 433 ] من غير أصل تقدم ذلك احتذاه ، أو بنى عليه ، أو فزع إليه ، كما يفزع المتنجم إلى حسابه ، والمتكهن إلى رئيه . فذلك هو
الفصل بين علم الأنبياء بالغيوب وإخبارهم عنها ، وبين علم سائر المتكذبة على الله ، أو المدعية علم ذلك ، كما : -
7099 - حدثنا
ابن حميد قال : حدثنا
سلمة ، عن
ابن إسحاق قال : لما بلغ
عيسى تسع سنين أو عشرا أو نحو ذلك ، أدخلته أمه الكتاب ، فيما يزعمون . فكان عند رجل من المكتبيين يعلمه كما يعلم الغلمان ، فلا يذهب يعلمه شيئا مما يعلمه الغلمان إلا بدره إلى علمه قبل أن يعلمه إياه ، فيقول : ألا تعجبون لابن هذه الأرملة ، ما أذهب أعلمه شيئا إلا وجدته أعلم به مني ! !
7100 - حدثني
موسى قال : حدثنا
عمرو قال : حدثنا
أسباط ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=14468السدي : لما كبر
عيسى أسلمته أمه يتعلم التوراة ، فكان يلعب مع الغلمان غلمان القرية التي كان فيها ، فيحدث الغلمان بما يصنع آباؤهم .
7101 - حدثني
يعقوب بن إبراهيم . قال : حدثنا
هشيم قال : أخبرنا
إسماعيل بن سالم ، عن
سعيد بن جبير في قوله : "
وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم " قال : كان
عيسى ابن مريم ، إذ كان في الكتاب ، يخبرهم بما يأكلون في بيوتهم وما يدخرون .
7102 - حدثنا
القاسم قال : حدثنا
الحسين قال : حدثنا
هشيم قال : أخبرنا
إسماعيل بن سالم قال : سمعت
سعيد بن جبير يقول : "
وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم ، قال : إن
عيسى ابن مريم كان يقول للغلام في الكتاب :
[ ص: 434 ] " يا فلان ، إن أهلك قد خبأوا لك كذا وكذا من الطعام ، فتطعمني منه " ؟
قال
أبو جعفر : فهكذا فعل الأنبياء وحججها ، إنما تأتي بما أتت به من الحجج بما قد يوصل إليه ببعض الحيل ، على غير الوجه الذي يأتي به غيرها ، بل من الوجه الذي يعلم الخلق أنه لا يوصل إليه من ذلك الوجه بحيلة إلا من قبل الله .
وبنحو ما قلناه في تأويل قوله : "
وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم " قال أهل التأويل .
ذكر من قال ذلك :
7103 - حدثني
محمد بن عمرو قال : حدثنا
أبو عاصم ، عن
عيسى ، عن
ابن أبي نجيح ، عن
مجاهد في قول الله : "
وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم " قال : بما أكلتم البارحة ، وما خبأتم منه
عيسى ابن مريم يقوله .
7104 - حدثني
المثنى قال : حدثنا
أبو حذيفة قال : حدثنا
شبل ، عن
ابن أبي نجيح ، عن
مجاهد مثله .
7105 - حدثنا
القاسم قال : حدثنا
الحسين قال : حدثني
حجاج ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=13036ابن جريج قال : قال
عطاء بن أبي رباح - يعني قوله : "
وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم " - قال : الطعام والشيء يدخرونه في بيوتهم ، غيبا علمه الله إياه .
7106 - حدثني
المثنى قال : حدثنا
إسحاق قال : حدثنا
ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن
الربيع في قوله : "
وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم " قال : " ما تأكلون " ما أكلتم البارحة من طعام ، وما خبأتم منه .
7107 - حدثني
موسى بن هارون قال : حدثنا
عمرو قال : حدثنا
أسباط ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=14468السدي قال : كان - يعني
عيسى ابن مريم - يحدث الغلمان وهو معهم في الكتاب بما يصنع آباؤهم ، وبما يرفعون لهم ، وبما يأكلون . ويقول للغلام :
[ ص: 435 ] " انطلق ، فقد رفع لك أهلك كذا وكذا ، وهم يأكلون كذا وكذا " فينطلق الصبي فيبكي على أهله حتى يعطوه ذلك الشيء . فيقولون له : من أخبرك بهذا ؟ فيقول :
عيسى ! فذلك قول الله - عز وجل - : " وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم " فحبسوا صبيانهم عنه ، وقالوا : لا تلعبوا مع هذا الساحر ! فجمعوهم في بيت ، فجاء
عيسى يطلبهم ، فقالوا : ليس هم هاهنا ، فقال : ما في هذا البيت ؟ فقالوا : خنازير . قال
عيسى : كذلك يكونون ! ففتحوا عنهم ، فإذا هم خنازير . فذلك قوله : (
على لسان داود وعيسى ابن مريم ) [ سورة المائدة : 78 ] .
7108 - حدثني
محمد بن سنان قال : حدثنا
أبو بكر الحنفي ، عن
عباد ، عن
الحسن في قوله : "
وما تدخرون في بيوتكم " قال : ما تخبأون مخافة الذي يمسك أن يخلفه .
وقال آخرون : إنما عنى بقوله : "
وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم " ما تأكلون من المائدة التي تنزل عليكم ، وما تدخرون منها .
ذكر من قال ذلك :
7109 - حدثنا
بشر بن معاذ قال : حدثنا
يزيد قال : حدثنا
سعيد ، عن
قتادة قوله : "
وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم " فكان القوم لما سألوا المائدة فكانت خوانا ينزل عليه أينما كانوا ثمرا من ثمار الجنة ، فأمر القوم أن
[ ص: 436 ] لا يخونوا فيه ولا يخبأوا ولا يدخروا لغد ، بلاء ابتلاهم الله به . فكانوا إذا فعلوا من ذلك شيئا أنبأهم به
عيسى ابن مريم ، فقال : "
وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم " .
7110 - حدثنا
الحسن بن يحيى قال : أخبرنا
عبد الرزاق قال : أخبرنا
معمر ، عن
قتادة في قوله : "
وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون " قال : أنبئكم بما تأكلون من المائدة وما تدخرون منها . قال : فكان أخذ عليهم في المائدة حين نزلت : أن يأكلوا ولا يدخروا ، فادخروا وخانوا ، فجعلوا خنازير حين ادخروا وخانوا ، فذلك قوله : (
فمن يكفر بعد منكم فإني أعذبه عذابا لا أعذبه أحدا من العالمين ) [ سورة المائدة : 115 ] .
قال
ابن يحيى قال :
عبد الرزاق قال :
معمر ، عن
قتادة ، عن
خلاس بن عمرو ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=56عمار بن ياسر ، ذلك .
وأصل " يدخرون " من " الفعل " " يفتعلون " من قول القائل : " ذخرت الشيء " بالذال ، " فأنا أذخره " . ثم قيل : " يدخر " كما قيل : " يدكر " من : " ذكرت الشيء " يراد به " يذتخر " . فلما اجتمعت " الذال " و " التاء " وهما متقاربتا المخرج ، ثقل إظهارهما على اللسان ، فأدغمت إحداهما في الأخرى ، وصيرتا " دالا " مشددة ، صيروها عدلا بين " الذال " و " التاء " . ومن العرب من يغلب " الذال " على " التاء " فيدغم " التاء " في " الذال " فيقول : وما تذخرون " " وهو مذخر لك " " وهو مذكر " .
واللغة التي بها القراءة ، الأولى ، وذلك إدغام " الذال " في " التاء " وإبدالهما
[ ص: 437 ] " دالا " مشددة . لا يجوز القراءة بغيرها ، لتظاهر النقل من القرأة بها ، وهي اللغة الجودى ، كما قال زهير :
إن الكريم الذي يعطيك نائله عفوا ، ويظلم أحيانا فيظلم
يروى " بالظاء " يريد : " فيفتعل " من " الظلم " ويروى " بالطاء " أيضا .