[ ص: 483 ] القول في تأويل قوله (
قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون ( 64 ) )
قال
أبو جعفر : يعني بذلك - جل ثناؤه - : " قل " يا
محمد ، لأهل الكتاب ، وهم أهل التوراة والإنجيل " تعالوا " هلموا " إلى كلمة سواء " يعني : إلى كلمة عدل بيننا وبينكم ، والكلمة العدل ، هي أن نوحد الله فلا نعبد غيره ، ونبرأ من كل معبود سواه ، فلا نشرك به شيئا .
وقوله : "
ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا " يقول : ولا يدين بعضنا لبعض بالطاعة فيما أمر به من معاصي الله ، ويعظمه بالسجود له كما يسجد لربه " فإن تولوا " يقول : فإن أعرضوا عما دعوتهم إليه من الكلمة السواء التي أمرتك بدعائهم إليها ، فلم يجيبوك إليها " فقولوا " أيها المؤمنون ، للمتولين عن ذلك " اشهدوا بأنا مسلمون " .
واختلف أهل التأويل فيمن نزلت فيه هذه الآية .
فقال بعضهم : نزلت في يهود بني إسرائيل الذين كانوا حوالي
مدينة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
ذكر من قال ذلك :
7191 - حدثنا
بشر قال : حدثنا
يزيد قال : حدثنا
سعيد ، عن
قتادة قال : ذكر لنا أن نبي الله - صلى الله عليه وسلم - دعا
يهود أهل المدينة إلى الكلمة السواء ، وهم الذين حاجوا في
إبراهيم .
[ ص: 484 ]
7192 - حدثني
المثنى قال : حدثنا
إسحاق قال : حدثنا
عبد الله بن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن
الربيع قال : ذكر لنا أن نبي الله - صلى الله عليه وسلم - دعا
اليهود إلى كلمة السواء .
7193 - حدثنا
القاسم قال : حدثنا
الحسين قال : حدثني
حجاج ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=13036ابن جريج قال : بلغنا أن نبي الله - صلى الله عليه وسلم - دعا
يهود أهل المدينة إلى ذلك ، فأبوا عليه ، فجاهدهم قال : دعاهم إلى قول الله - عز وجل - : "
قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم " الآية .
وقال آخرون : بل نزلت في الوفد من
نصارى نجران .
ذكر من قال ذلك :
7194 - حدثنا
ابن حميد قال : حدثنا
سلمة ، عن
ابن إسحاق ، عن
محمد بن جعفر بن الزبير : " قل
يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم " الآية ، إلى قوله : "
فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون " قال : فدعاهم إلى النصف ، وقطع عنهم الحجة - يعني وفد نجران .
7195 - حدثنا
موسى قال : حدثنا
عمرو قال : حدثنا
أسباط ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=14468السدي قال : ثم دعاهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . - يعني الوفد من
نصارى نجران - فقال : "
يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم " الآية .
7196 - حدثني
يونس قال : أخبرني
ابن وهب قال : حدثنا
ابن زيد قال قال : يعني - جل ثناؤه - : "
إن هذا لهو القصص الحق " في
عيسى على ما قد بيناه فيما مضى قال : فأبوا - يعني الوفد من
نجران - فقال : ادعهم إلى أيسر من هذا ، " قل
يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم "
[ ص: 485 ] فقرأ حتى بلغ
أربابا من دون الله " فأبوا أن يقبلوا هذا ولا الآخر .
قال
أبو جعفر : وإنما قلنا عنى بقوله : " يا أهل الكتاب " أهل الكتابين ، لأنهما جميعا من أهل الكتاب ، ولم يخصص - جل ثناؤه - بقوله : " يا أهل الكتاب " بعضا دون بعض . فليس بأن يكون موجها ذلك إلى أنه مقصود به أهل التوراة ، بأولى منه بأن يكون موجها إلى أنه مقصود به أهل الإنجيل ، ولا أهل الإنجيل بأولى أن يكونوا مقصودين به دون غيرهم من أهل التوراة . وإذ لم يكن أحد الفريقين بذلك بأولى من الآخر لأنه لا دلالة على أنه المخصوص بذلك من الآخر ، ولا أثر صحيح فالواجب أن يكون كل كتابي معنيا به . لأن إفراد العبادة لله وحده ، وإخلاص التوحيد له ، واجب على كل مأمور منهي من خلق الله . واسم " أهل الكتاب " يلزم أهل التوراة وأهل الإنجيل ، فكان معلوما بذلك أنه عني به الفريقان جميعا .
وأما تأويل قوله : " تعالوا " فإنه : أقبلوا وهلموا . وإنما " هو تفاعلوا " من " العلو " فكأن القائل لصاحبه : " تعال إلي " قائل " تفاعل " من " العلو " كما يقال : " تدان مني " من " الدنو " و " تقارب مني " من " القرب " .
[ ص: 486 ]
وقوله : "
إلى كلمة سواء " . فإنها الكلمة العدل ، " والسواء " من نعت " الكلمة " .
وقد اختلف أهل العربية في وجه إتباع " سواء " في الإعراب " لكلمة " وهو اسم لا صفة .
فقال بعض نحويي
البصرة : جر " سواء " لأنها من صفة " الكلمة " وهي العدل ، وأراد مستوية . قال : ولو أراد " استواء " كان النصب . وإن شاء أن يجعلها على " الاستواء " ويجر ، جاز ، ويجعله من صفة " الكلمة " مثل " الخلق " لأن " الخلق " هو " المخلوق " . " والخلق " قد يكون صفة واسما ، ويجعل " الاستواء " مثل " المستوي " قال - عز وجل - : (
الذي جعلناه للناس سواء العاكف فيه والباد ) [ سورة الحج : 25 ] ، لأن " السواء " للآخر ، وهو اسم ليس بصفة فيجرى على الأول ، وذلك إذا أراد به " الاستواء " . فإن أراد به " مستويا " جاز أن يجري على الأول . والرفع في ذا المعنى جيد ، لأنها لا تغير عن حالها ولا تثنى ولا تجمع ولا تؤنث فأشبهت الأسماء التي هي مثل " عدل " و " رضى " و " جنب " وما أشبه ذلك . وقالوا : [ في قوله ] : (
أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات سواء محياهم ومماتهم ) [ سورة الجاثية : 21 ] ، ف " السواء " للمحيا والممات بهذا ، المبتدأ .
وإن شئت أجريته على الأول ، وجعلته صفة مقدمة ، كأنها من سبب الأول
[ ص: 487 ] فجرت عليه . وذلك إذا جعلته في معنى " مستوي " . والرفع وجه الكلام كما فسرت لك .
وقال بعض نحويي الكوفة : " سواء " مصدر وضع موضع الفعل ، يعني موضع " متساوية " : و " متساو " فمرة يأتي على الفعل ، ومرة على المصدر . وقد يقال في " سواء " بمعنى عدل : " سوى وسوى " كما قال - جل ثناؤه - : (
مكانا سوى ) و ( سوى ) [ سورة طه : 58 ] ، يراد به : عدل ونصف بيننا وبينك . وقد روي عن
ابن مسعود رضي الله عنه أنه كان يقرأ ذلك ( " إلى كلمة عدل بيننا وبينكم " ) .
وبمثل الذي قلنا في تأويل قوله : "
إلى كلمة سواء بيننا وبينكم " بأن " السواء " هو العدل ، قال أهل التأويل .
ذكر من قال ذلك :
7197 - حدثنا
بشر قال : حدثنا
يزيد قال : حدثنا
سعيد ، عن
قتادة قوله : "
يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم " عدل بيننا وبينكم " ألا نعبد إلا الله " الآية .
7198 - حدثنا
المثنى قال : حدثنا
إسحاق قال : حدثنا
ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن
الربيع في قوله : "
قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا " بمثله .
[ ص: 488 ]
وقال آخرون : هو قول " لا إله إلا الله " .
ذكر من قال ذلك :
7199 - حدثني
المثنى قال : حدثنا
إسحاق قال : حدثنا
ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن
الربيع قال : قال
أبو العالية : " كلمة السواء " لا إله إلا الله .
وأما قوله : " ألا نعبد إلا الله " فإن " أن " في موضع خفض على معنى : تعالوا إلى أن لا نعبد إلا الله .
وقد بينا - معنى " العبادة " في كلام العرب فيما مضى ، ودللنا على الصحيح من معانيه بما أغنى عن إعادته .
وأما قوله : "
ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا " فإن " اتخاذ بعضهم بعضا " ما كان بطاعة الأتباع الرؤساء فيما أمروهم به من معاصي الله ، وتركهم ما نهوهم عنه من طاعة الله ، كما قال - جل ثناؤه - : (
اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا ) [ سورة التوبة : 31 ] ، كما : -
7200 - حدثنا
القاسم قال : حدثنا
الحسين قال : حدثني
حجاج قال : قال
nindex.php?page=showalam&ids=13036ابن جريج : "
ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله " يقول : لا يطع بعضنا بعضا في معصية الله . ويقال إن تلك الربوبية : أن يطيع الناس سادتهم وقادتهم في غير عبادة ، وإن لم يصلوا لهم .
[ ص: 489 ]
وقال آخرون : " اتخاذ بعضهم بعضا أربابا " سجود بعضهم لبعض .
ذكر من قال ذلك :
7201 - حدثني
المثنى قال : حدثنا
إسحاق قال : حدثنا
حفص بن عمر ، عن
الحكم بن أبان ، عن
عكرمة في قوله : "
ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله " قال : سجود بعضهم لبعض .
وأما قوله : "
فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون " فإنه يعني : فإن تولى الذين تدعونهم إلى الكلمة السواء عنها وكفروا ، فقولوا أنتم ، أيها المؤمنون ، لهم : اشهدوا علينا بأنا بما توليتم عنه ، من توحيد الله ، وإخلاص العبودية له ، وأنه الإله الذي لا شريك له " مسلمون " يعني : خاضعون لله به ، متذللون له بالإقرار بذلك بقلوبنا وألسنتنا .
وقد بينا معنى " الإسلام " فيما مضى ، ودللنا عليه بما أغنى عن إعادته .