إذا مت فانعيني بما أنا أهله وشقي علي الجيب يا ابنة معبد
واعترض بأن التعذيب بسبب الوصية يستحق بمجرد صدور الوصية ، والحديث دال على أنه إنما يقع عند وقوع الامتثال . والجواب أنه ليس في السياق حصر ، فلا يلزم من وقوعه عند الامتثال أن لا يقع إذا لم يمتثلوا مثلا . ثالثها يقع ذلك أيضا لمن أهمل نهي أهله عن ذلك ، وهو قول داود وطائفة . ولا يخفى أن محله ما إذا لم يتحقق أنه ليست لهم بذلك عادة ، ولا ظن أنهم يفعلون ذلك ، قال : إذا علم المرء بما جاء في النهي عن النوح ، وعرف أن أهله من شأنهم يفعلون ذلك ، ولم يعلمهم بتحريمه ، ولا زجرهم عن تعاطيه ، فإذا عذب على ذلك بفعل نفسه لا بفعل غيره بمجرده . رابعها معنى قوله : " يعذب ببكاء أهله " ؛ أي بنظير ما يبكيه أهله به ، وذلك أن الأفعال التي يعددون بها عليه غالبا تكون من الأمور المنهية ، فهم يمدحونه بها ، وهو يعذب بصنيعه ذلك ، وهو عين ما يمدحونه به ، وهذا اختيار ابن المرابط وطائفة ، واستدل له بحديث ابن حزم ابن عمر الآتي بعد عشرة أبواب في قصة موت إبراهيم ابن النبي صلى الله عليه وسلم ، وفيه : ولكن يعذب بهذا ، وأشار إلى لسانه . . قال : فصح أن البكاء الذي يعذب به الإنسان ما كان منه باللسان ، إذ يندبونه برياسته التي جار فيها ، وشجاعته التي صرفها في غير طاعة الله ، وجوده الذي لم يضعه في الحق ، فأهله يبكون عليه بهذه المفاخر ، وهو يعذب بذلك . وقال ابن حزم كثر كلام العلماء في هذه المسألة ، وقال : كل مجتهد على حسب ما قدر له ، ومن أحسن ما حضرني وجه لم أرهم ذكروه ، وهو أنهم كانوا في الجاهلية يغيرون ويسبون ويقتلون ، وكان أحدهم إذا مات بكته باكيته بتلك الأفعال المحرمة ، فمعنى الخبر أن الميت يعذب بذلك الذي يبكي عليه أهله به ، لأن الميت يندب بأحسن أفعاله ، وكانت محاسن أفعالهم ما ذكر ، وهي زيادة ذنب الإسماعيلي [ ص: 185 ] من ذنوبه يستحق العذاب عليها . خامسها معنى التعذيب توبيخ الملائكة له بما يندبه أهله به ، كما روى أحمد من حديث أبي موسى مرفوعا : الميت يعذب ببكاء الحي ، إذا قالت النائحة : واعضداه واناصراه واكاسياه ، جبذ الميت ، وقيل له : أنت عضدها ، أنت ناصرها ، أنت كاسيها ؟ ورواه ابن ماجه بلفظ : يتعتع به ، ويقال : أنت كذلك . ؟ ورواه الترمذي بلفظ : ما من ميت يموت فتقوم نادبته فتقول : واجبلاه واسنداه ، أو شبه ذلك من القول ، إلا وكل به ملكان يلهزانه ، أهكذا كنت ؟ وشاهده ما روى المصنف في المغازي من حديث النعمان بن بشير قال : أغمي على عبد الله بن رواحة ، فجعلت أخته تبكي وتقول : واجبلاه واكذا واكذا ، فقال حين أفاق : ما قلت شيئا إلا قيل لي : أنت كذلك ؟ سادسها معنى التعذيب تألم الميت بما يقع من أهله من النياحة وغيرها ، وهذا اختيار أبي جعفر الطبري من المتقدمين ، ورجحه ، ابن المرابط وعياض ، ومن تبعه ، ونصره ابن تيمية وجماعة من المتأخرين ، واستشهدوا له بحديث قيلة بنت مخرمة ، وهي بفتح القاف وسكون التحتانية ، وأبوها بفتح الميم وسكون المعجمة ، ثقفية : " قلت : يا رسول الله ، قد ولدته فقاتل معك يوم الربذة ، ثم أصابته الحمى فمات ، ونزل علي البكاء ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أيغلب أحدكم أن يصاحب صويحبه في الدنيا معروفا ، وإذا مات استرجع ، فوالذي نفس محمد بيده ، إن أحدكم ليبكي فيستعبر إليه صويحبه ، فيا عباد الله ، لا تعذبوا موتاكم . وهذا طرف من حديث طويل حسن الإسناد ، أخرجه ، ابن أبي خيثمة ، وابن أبي شيبة وغيرهم ، وأخرج والطبراني أبو داود ، أطرافا منه . قال والترمذي الطبري : ويؤيد ما قاله أن أعمال العباد تعرض على أقربائهم من موتاهم ، ثم ساقه بإسناد صحيح إليه ، وشاهده حديث أبو هريرة النعمان بن بشير مرفوعا ، أخرجه في تاريخه ، وصححه البخاري ، قال الحاكم : حديث ابن المرابط قيلة نص في المسألة ، فلا يعدل عنه . واعترضه ابن رشيد بأنه ليس نصا ، وإنما هو محتمل ، فإن قوله : " فيستعبر إليه صويحبه " ليس نصا في أن المراد به الميت ، بل يحتمل أن يراد به صاحبه الحي ، وأن الميت يعذب حينئذ ببكاء الجماعة عليه ، ويحتمل أن يجمع بين هذه التوجيهات فينزل على اختلاف الأشخاص بأن يقال مثلا : من كانت طريقته النوح فمشى أهله على طريقته ، أو بالغ فأوصاهم بذلك عذب بصنعه ، ومن كان ظالما فندب بأفعاله الجائرة عذب بما ندب به ، ومن كان يعرف من أهله النياحة فأهمل نهيهم عنها ، فإن كان راضيا بذلك التحق بالأول وإن كان غير راض عذب بالتوبيخ : كيف أهمل النهي . ومن سلم من ذلك كله واحتاط ، فنهى أهله عن المعصية ، ثم خالفوه وفعلوا ذلك كان تعذيبه تألمه بما يراه منهم من مخالفة أمره ، وإقدامهم على معصية ربهم . والله تعالى أعلم بالصواب . وحكى الكرماني تفصيلا آخر وحسنه ، وهو التفرقة بين حال البرزخ وحال يوم القيامة ، فيحمل قوله تعالى : ولا تزر وازرة وزر أخرى على يوم القيامة ، وهذا الحديث وما أشبهه على البرزخ . ويؤيد ذلك أن مثل ذلك يقع في الدنيا ، والإشارة إليه بقوله تعالى : واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة ، فإنها دالة على جواز وقوع التعذيب على الإنسان بما ليس له فيه تسبب ، فكذلك يمكن أن يكون الحال في البرزخ بخلاف يوم القيامة ، والله أعلم . ثم أورد المصنف في الباب خمسة أحاديث : الأول حديث أسامة .