وقوله : ( تكذبون فيها ) أي تقولون : إنه صلى الله عليه وسلم أحرم منها ، ولم يحرم منها وإنما أحرم قبلها من عند مسجد ذي الحليفة ، ومن عند الشجرة التي كانت هناك ، وكانت عند المسجد . وسماهم ابن عمر كاذبين ؛ لأنهم أخبروا بالشيء على خلاف ما هو ، وقد سبق في أول هذا الشرح في مقدمة صحيح مسلم أن الكذب عند أهل السنة هو الإخبار عن الشيء بخلاف ما هو ، سواء تعمده أم غلط فيه أو سها ، وقالت المعتزلة : يشترط فيه العمدية ، وعندنا أن العمدية شرط لكونه إثما لا لكونه يسمى كذبا ، فقول ابن عمر جار على قاعدتنا ، وفيه أنه لا بأس بإطلاق هذه اللفظة ، وفيه دلالة على أن ميقات [ ص: 268 ] أهل المدينة من عند مسجد ذي الحليفة ، ولا يجوز لهم تأخير الإحرام إلى البيداء ، وبهذا قال جميع العلماء ، وفيه أن الإحرام من الميقات أفضل من دويرة أهله ؛ لأنه صلى الله عليه وسلم ترك الإحرام من مسجده مع كمال شرفه ، فإن قيل : إنما أحرم من الميقات لبيان الجواز ، قلنا : هذا غلط لوجهين : أحدهما : أن البيان قد حصل بالأحاديث الصحيحة في بيان المواقيت . والثاني : أن فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما يحمل على بيان الجواز في شيء يتكرر فعله كثيرا ، فيفعله مرة أو مرات على الوجه الجائز ، لبيان الجواز ، ويواظب غالبا على فعله على أكمل وجوهه ، وذلك كالوضوء مرة ومرتين وثلاثا كله ثابت ، والكثير أنه صلى الله عليه وسلم توضأ ثلاثا ثلاثا ، وأما الإحرام بالحج فلم يتكرر ، وإنما جرى منه صلى الله عليه وسلم مرة واحدة ، فلا يفعله إلا على أكمل وجوهه . والله أعلم .
قوله : ( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يركع بذي الحليفة ركعتين ثم إذا استوت به الناقة قائمة عند مسجد ذي الحليفة أهل ) فيه استحباب صلاة الركعتين عند إرادة الإحرام ويصليهما قبل الإحرام ، ويكونان نافلة ، هذا مذهبنا ومذهب العلماء كافة إلا ما حكاه القاضي وغيره عن nindex.php?page=showalam&ids=14102الحسن البصري : أنه استحب كونهما بعد صلاة فرض ، قال : لأنه روي أن هاتين الركعتين كانتا صلاة الصبح ، والصواب ما قاله الجمهور ، وهو ظاهر الحديث ، قال أصحابنا وغيرهم من العلماء : وهذه الصلاة سنة لو تركها فاتته الفضيلة ، ولا إثم عليه ولا دم ، قال أصحابنا : فإن كان إحرامه في وقت من الأوقات المنهي فيها عن الصلاة لم يصلهما ، هذا هو المشهور ، وفيه وجه لبعض أصحابنا أنه يصليهما فيه ؛ لأن سببهما إرادة الإحرام ، وقد وجد ذلك . وأما وقت الإحرام فسنذكره في الباب بعده إن شاء الله تعالى .