قوله في هذا الباب عن ابن عمر قال : ( فإني لم أر رسول الله صلى الله عليه وسلم يهل حتى تنبعث به راحلته ) ، وقال في الحديث السابق : ( ثم إذا استوت به الناقة قائمة عند مسجد ذي الحليفة أهل ) ، وفي الحديث الذي قبله ( كان إذا استوت به راحلته قائمة عند مسجد ذي الحليفة أهل ) ، وفي رواية : ( حين قام به بعيره ) ، وفي رواية : ( يهل حتى تستوي به راحلته قائمة ) .
هذه الروايات كلها متفقة في المعنى ، وانبعاثها هو استواؤها قائمة ، وفيها دليل لمالك nindex.php?page=showalam&ids=13790والشافعي والجمهور أن الأفضل أن يحرم إذا انبعثت به راحلته ، وقال أبو حنيفة : يحرم عقب الصلاة وهو جالس قبل ركوب دابته ، وقبل قيامه ، وهو قول ضعيف nindex.php?page=showalam&ids=13790للشافعي ، وفيه حديث من رواية ابن عباس لكنه ضعيف ، وفيه : أن التلبية لا تقدم على الإحرام .
[ ص: 269 ] قوله عن عبيد بن جريج أنه قال nindex.php?page=showalam&ids=12لابن عمر : ( رأيتك تصنع أربعا لم أر أحدا من أصحابك يصنعها ) إلى آخره ، قال المازري : يحتمل أن مراده لا يصنعها غيرك مجتمعة ، وإن كان يصنع بعضها .
قوله : ( رأيتك لا تمس من الأركان إلا اليمانيين ) ثم ذكر ابن عمر في جوابه : أنه لم ير رسول الله صلى الله عليه وسلم يمس إلا اليمانيين ، هما بتخفيف الياء ، هذه اللغة الفصيحة المشهورة ، وحكى nindex.php?page=showalam&ids=16076سيبويه وغيره من الأئمة تشديدها في لغة قليلة ، والصحيح التخفيف ، قالوا : لأن نسبه إلى اليمن ، فحقه أن يقال اليمني ، وهو جائز ، فلما قالوا ( اليماني ) أبدلوا من إحدى ياءي النسب ألفا ، فلو قالوا اليماني بالتشديد لزم منه الجمع بين البدل والمبدل ، والذين شددوها قالوا : هذه الألف زائدة ، وقد تزاد في النسب كما قالوا في النسب إلى صنعاء : صنعاني ، فزادوا النون الثانية وإلى الري : رازي ، فزادوا الزاي ، وإلى الرقبة : رقباني ، فزادوا النون .
والمراد بالركنين اليمانيين : الركن اليماني ، والركن الذي فيه الحجر الأسود ، ويقال له : العراقي ؛ لكونه إلى جهة العراق ؛ وقيل للذي قبله اليماني ؛ لأنه إلى جهة اليمن ، ويقال لهما : اليمانيان تغليبا لأحد الاسمين ، كما قالوا : الأبوان للأب والأم ، والقمران للشمس والقمر ، والعمران لأبي بكر وعمر رضي الله عنهما ، ونظائره مشهورة ، فتارة يغلبون بالفضيلة كالأبوين ، وتارة بالخفة كالعمرين ، وتارة بغير ذلك ، وقد بسطته في تهذيب الأسماء واللغات .
قال العلماء : ويقال للركنين الآخرين اللذين يليان الحجر بكسر الحاء : الشاميان ؛ لكونهما بجهة الشام ، قالوا : فاليمانيان باقيان على قواعد إبراهيم صلى الله عليه وسلم ، بخلاف الشاميين ، فلهذا لم يستلما واستلم اليمانيان لبقائهما على قواعد إبراهيم صلى الله عليه وسلم ، ثم إن العراقي من اليمانيين اختص بفضيلة أخرى ، وهي الحجر الأسود ، فاختص لذلك مع الاستلام بتقبيله ، ووضع الجبهة عليه بخلاف اليماني . والله أعلم .
قال القاضي : وقد اتفق أئمة الأمصار والفقهاء اليوم على أن الركنين الشاميين لا يستلمان ، وإنما كان الخلاف في ذلك العصر الأول من بعض الصحابة وبعض التابعين ، ثم ذهب .
وقوله : ( ورأيتك تلبس النعال السبتية ) ، وقال ابن عمر في جوابه : ( وأما النعال السبتية فإني nindex.php?page=hadith&LINKID=3505577رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يلبس النعال التي ليس فيها شعر ، ويتوضأ فيها وأنا أحب أن ألبسها ) فقوله : ( ألبس وتلبس ) كله بفتح الباء ، وأما ( السبتية ) فبكسر السين وإسكان الباء الموحدة ، وقد أشار ابن عمر إلى تفسيرها بقوله : ( التي ليس فيها شعر ) ، وهكذا قال جماهير أهل اللغة وأهل الغريب وأهل الحديث : إنها التي لا شعر فيها ، قالوا : وهي مشتقة من ( السبت ) بفتح السين وهو الحلق والإزالة ، ومنه قولهم : سبت رأسه أي [ ص: 270 ] حلقه ، قال الهروي : وقيل : سميت بذلك ؛ لأنها انسبتت بالدباغ أي لانت ، يقال : رطبة منسبتة أي لينة .
قال أبو عمرو الشيباني : السبت : كل جلد مدبوغ ، وقال أبو زيد : السبت : جلود البقر مدبوغة كانت ، أو غير مدبوغة ، وقيل : هو نوع من الدباغ يقلع الشعر ، وقال ابن وهب : النعال السبتية كانت سودا لا شعر فيها .
قال القاضي : وهذا ظاهر كلام ابن عمر في قوله : ( النعال التي ليس فيها شعر ) ، وقال : هذا لا يخالف ما سبق ، فقد تكون سودا مدبوغة بالقرظ لا شعر فيها ؛ لأن بعض المدبوغات يبقى شعرها ، وبعضها لا يبقى . قال : وكانت عادة العرب لباس النعال بشعرها غير مدبوغة ، وكانت المدبوغة تعمل بالطائف وغيره ، وإنما كان يلبسها أهل الرفاهية ، كما قال شاعرهم :
تحذي نعال السبت ليس بتوءم
قال القاضي : والسين في جميع هذا مكسورة ، قال : والأصح عندي أن يكون اشتقاقها وإضافتها إلى السبت الذي هو الجلد المدبوغ أو إلى الدباغة ؛ لأن السين مكسورة في نسبتها ، ولو كانت من ( السبت ) الذي هو الحلق كما قاله الأزهري وغيره ، لكانت النسبة ( سبتية ) بفتح السين ، ولم يروها أحد في هذا الحديث ولا في غيره ولا في الشعر فيما علمت إلا بالكسر ، هذا كلام القاضي .
و قوله : ( ويتوضأ فيها ) معناه : يتوضأ ويلبسها ورجلاه رطبتان .
قوله : ( ورأيتك تصبغ بالصفرة ) وقال ابن عمر في جوابه : ( وأما الصفرة فإني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصبغ بها فأنا أحب أن أصبغ بها ) فقوله : ( يصبغ وأصبغ ) بضم الباء وفتحها لغتان مشهورتان ، حكاهما الجوهري وغيره ، قال الإمام المازري : قيل : المراد في هذا الحديث صبغ الشعر ، وقيل : صبغ الثوب ؛ قال : والأشبه أن يكون صبغ الثياب ؛ لأنه أخبر أن النبي صلى الله عليه وسلم صبغ ، ولم ينقل عنه صلى الله عليه وسلم أنه صبغ شعره ، قال القاضي عياض : هذا أظهر الوجهين ، وإلا فقد جاءت آثار عن ابن عمر بين فيها تصفير ابن عمر لحيته ، واحتج بأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصفر لحيته بالورس والزعفران ، رواه أبو داود وذكر أيضا في حديث آخر احتجاجه بأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصبغ بها ثيابه حتى عمامته .
قوله : ( ورأيتك إذا كنت بمكة أهل الناس إذا رأوا الهلال ولم تهل أنت حتى يكون يوم التروية ) ، وقال ابن عمر في جوابه : ( وأما الإهلال فإني لم أر رسول الله صلى الله عليه وسلم يهل حتى تنبعث به راحلته ) أما ( يوم التروية ) فبالتاء المثناة فوق ، وهو الثامن من ذي الحجة ، سمي بذلك لأن الناس كانوا يتروون فيه من الماء أي يحملونه معهم من مكة إلى عرفات ليستعملوه في الشرب وغيره .
وأما فقه المسألة فقال المازري : أجابه ابن عمر بضرب من القياس ، حيث لم يتمكن من الاستدلال بنفس فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم على المسألة بعينها ، فاستدل بما في معناه ، ووجه قياسه أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما أحرم عند الشروع في أفعال الحج والذهاب [ ص: 271 ] إليه ، فأخر ابن عمر الإحرام إلى حال شروعه في الحج وتوجهه إليه ، وهو يوم التروية ، فإنهم حينئذ يخرجون من مكة إلى منى ، ووافق ابن عمر على هذا nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي وأصحابه ، وبعض أصحاب مالك وغيرهم ، وقال آخرون : الأفضل أن يحرم من أول ذي الحجة ، ونقله القاضي عن أكثر الصحابة والعلماء ، والخلاف في الاستحباب ، وكل منهما جائز بالإجماع . والله أعلم .
قوله ( nindex.php?page=showalam&ids=17368ابن قسيط ) هو يزيد بن عبد الله بن قسيط ، بقاف مضمومة وسين مهملة مفتوحة وإسكان الياء .