أجمعت الأمة على تحريم طلاق الحائض الحائل بغير رضاها فلو طلقها أثم ووقع طلاقه ويؤمر بالرجعة لحديث ابن عمر المذكور في الباب ، وشذ بعض أهل الظاهر ، فقال : لا يقع طلاقه لأنه غير مأذون له فيه فأشبه طلاق الأجنبية . والصواب الأول ، وبه قال العلماء كافة ودليلهم أمره بمراجعتها ولو لم يقع لم تكن رجعة . فإن قيل المراد بالرجعة الرجعة اللغوية وهي الرد إلى حالها الأول لا أنه تحسب عليه طلقة قلنا هذا غلط لوجهين : أحدهما أن حمل اللفظ على الحقيقة الشرعية يقدم على حمله على الحقيقة اللغوية كما تقرر في أصول الفقه ، الثاني أن ابن عمر صرح في روايات مسلم وغيره بأنه حسبها عليه طلقة ، والله أعلم .
وأجمعوا على أنه إذا طلقها يؤمر برجعتها كما ذكرنا وهذه الرجعة مستحبة لا واجبة ، هذا مذهبنا وبه قال الأوزاعي nindex.php?page=showalam&ids=11990وأبو حنيفة وسائر الكوفيين وأحمد وفقهاء المحدثين وآخرون ، وقال مالك وأصحابه : هي واجبة . فإن قيل ففي حديث ابن عمر هذا أنه أمر بالرجعة ثم بتأخير الطلاق إلى طهر بعد الطهر الذي يلي هذا الحيض فما فائدة التأخير ؟ فالجواب من أربعة أوجه : أحدها لئلا تصير الرجعة لغرض الطلاق فوجب أن يمسكها زمانا كان يحل له فيه الطلاق وإنما أمسكها لتظهر فائدة [ ص: 50 ] الرجعة وهذا جواب أصحابنا ، والثاني عقوبة له وتوبة من معصية باستدراك جنايته ، والثالث أن الطهر الأول مع الحيض الذي يليه وهو الذي طلق فيه كقرء واحد فلو طلقها في أول طهر لكان كمن طلق في الحيض ، والرابع أنه نهي عن طلاقها في الطهر ليطول مقامه معها فلعله يجامعها فيذهب ما في نفسه من سبب طلاقها فيمسكها ، والله أعلم .
قال أصحابنا الطلاق أربعة أقسام : حرام ومكروه وواجب ومندوب ، ولا يكون مباحا مستوي الطرفين .
فأما الواجب ففي صورتين وهما في الحكمين إذا بعثهما القاضي عند الشقاق بين الزوجين ورأيا المصلحة في الطلاق وجب عليهما الطلاق ; وفي المولي إذا مضت عليه [ ص: 51 ] أربعة أشهر وطالبت المرأة بحقها فامتنع من الفيئة والطلاق فالأصح عندنا أنه يجب على القاضي أن يطلق عليه طلقة رجعية .
وأما الحرام ففي ثلاث صور أحدها في الحيض بلا عوض منها ولا سؤالها ; والثاني في طهر جامعها فيه قبل بيان الحمل ; والثالث إذا كان عنده زوجات يقسم لهن وطلق واحدة قبل أن يوفيها قسمها .
وأما المندوب فهو ألا تكون المرأة عفيفة أو يخافا أو أحدهما ألا يقيما حدود الله أو نحو ذلك ، والله أعلم .
وأما جمع الطلقات الثلاثة دفعة فليس بحرام عندنا ، لكن الأولى تفريقها ، وبه قال أحمد و أبو ثور . وقال مالك nindex.php?page=showalam&ids=13760والأوزاعي nindex.php?page=showalam&ids=11990وأبو حنيفة nindex.php?page=showalam&ids=15124والليث : هو بدعة قال nindex.php?page=showalam&ids=14228الخطابي : في قوله صلى الله عليه وسلم : nindex.php?page=hadith&LINKID=3506036مره فليراجعها دليل على أن الرجعة لا تفتقر إلى رضا المرأة ولا وليها ولا تجديد عقد ، والله أعلم .
وأجمع العلماء من أهل الفقه والأصول واللغة على أن ( القرء ) يطلق في اللغة على الحيض وعلى الطهر واختلفوا في الأقراء المذكورة في قوله تعالى : والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء وفيما تنقضي به العدة ، فقال مالك nindex.php?page=showalam&ids=13790والشافعي وآخرون : هي الأطهار . وقال أبو حنيفة nindex.php?page=showalam&ids=13760والأوزاعي وآخرون : هي الحيض . وهو مروي عن عمر وعلي nindex.php?page=showalam&ids=10وابن مسعود رضي الله عنهم ، وبه قال الثوري nindex.php?page=showalam&ids=15922وزفر وإسحاق وآخرون من السلف ، وهو أصح الروايتين عن أحمد . قالوا : لأن من قال بالأطهار يجعلها قرأين وبعض الثالث ، وظاهر القرآن أنها ثلاثة .
والقائل بالحيض يشترط ثلاثة حيضات كوامل فهو أقرب إلى موافقة القرآن ، ولهذا الاعتراض صار nindex.php?page=showalam&ids=12300ابن شهاب الزهري إلى أن الأقراء هي الأطهار ، قال : ولكن لا تنقضي العدة إلا بثلاثة أطهار كاملة ولا تنقضي بطهرين وبعض الثالث . وهذا مذهب انفرد به بل اتفق القائلون بالأطهار على أنها بقرأين وبعض الثالث ، حتى لو طلقها وقد بقي من الطهر لحظة يسيرة حسب ذلك قرءا ، ويكفيها طهران بعده . وأجابوا عن الاعتراض بأن الشيئين وبعض الثالث يطلق عليها اسم : الجميع ، قال الله تعالى : الحج أشهر معلومات ومعلوم أنه شهران وبعض الثالث ، وكذا قوله تعالى : فمن تعجل في يومين المراد في يوم وبعض الثاني .
واختلف القائلون بالأطهار : متى تنقضي عدتها ؟ فالأصح عندنا أنه بمجرد رؤية الدم بعد [ ص: 52 ] الطهر الثالث ، وفي قول : لا تنقضي حتى يمضي يوم وليلة . والخلاف في مذهب مالك كهو عندنا .
واختلف القائلون بالحيض أيضا فقال أبو حنيفة وأصحابه : حتى تغتسل من الحيضة الثالثة أو يذهب وقت صلاة . وقال عمر وعلي nindex.php?page=showalam&ids=10وابن مسعود nindex.php?page=showalam&ids=16004والثوري nindex.php?page=showalam&ids=15922وزفر وإسحاق وأبو عبيد : حتى تغتسل من الثالثة . وقال الأوزاعي وآخرون : تنقضي بنفس انقطاع الدم . وعن إسحاق رواية ، أنه إذا انقطع الدم انقطعت الرجعة ، ولكن لا تحل للأزواج حتى تغتسل احتياطا وخروجا من الخلاف ، والله أعلم .
قوله : ( قال مسلم : جود الليث في قوله تطليقة واحدة ) يعني أنه حفظ وأتقن قدر الطلاق الذي لم يتقنه غيره ، ولم يهمله كما أهمله غيره ، ولا غلط فيه وجعله ثلاثا كما غلط فيه غيره .
وقد تظاهرت روايات مسلم بأنها طلقة واحدة .
قوله صلى الله عليه وسلم : ثم ليطلقها طاهرا أو حاملا فيه دلالة لجواز طلاق الحامل التي تبين حملها وهو مذهب nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي ، قال ابن المنذر : وبه قال أكثر العلماء منهم طاوس والحسن nindex.php?page=showalam&ids=16972وابن سيرين وربيعة nindex.php?page=showalam&ids=15741وحماد بن أبي سليمان nindex.php?page=showalam&ids=16867ومالك وأحمد وإسحاق nindex.php?page=showalam&ids=11956وأبو ثور وأبو عبيد ، قال ابن المنذر : وبه أقول . وبه قال بعض المالكية ، وقال بعضهم : هو حرام . وحكى ابن المنذر رواية أخرى عن الحسن أنه قال : طلاق الحامل مكروه ، ثم مذهب nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي ومن وافقه أنه له أن يطلق الحامل ثلاثا بلفظ واحد ، وبألفاظ متصلة ، وفي أوقات متفرقة . وكل ذلك جائز لا بدعة فيه . وقال أبو حنيفة وأبو يوسف : يجعل بين الطلقتين شهرا . وقال مالك nindex.php?page=showalam&ids=15922وزفر ومحمد بن الحسن لا يوقع عليها أكثر من واحدة حتى تضع .
[ ص: 53 ] قوله : ( أما أنت طلقت امرأتك مرة أو مرتين فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرني بهذا وإن كنت طلقتها ثلاثا فقد حرمت عليك ) أما قوله : أمرني بهذا ، فمعناه أمرني بالرجعة وأما قوله : أما أنت ، فقال القاضي عياض رضي الله عنه : هذا مشكل . قال : قيل : إنه بفتح الهمزة من ( أما ) أي أما إن كنت ، فحذفوا الفعل الذي يلي ( أن ) وجعلوا ( ما ) عوضا من الفعل ، وفتحوا ( أن ) وأدغموا النون في ( ما ) وجاءوا بأنت مكان العلامة في ( كنت ) ويدل عليه قوله بعده : ( وإن كنت طلقتها ثلاثا فقد حرمت عليك ) .
[ ص: 54 ] قوله : ( لقيت أبا غلاب يونس بن جبير ) هو بفتح الغين المعجمة وتشديد اللام وآخره باء موحدة هكذا ضبطناه وكذا ذكره nindex.php?page=showalam&ids=13484ابن ماكولا والجمهور وذكر القاضي عن بعض الرواة تخفيف اللام .
قوله : ( وكان ذا ثبت ) هو بفتح الثاء والباء أي مثبتا .
قوله : ( قلت أفحسبت عليه قال فمه أو أن عجز واستحمق ) معناه أفيرتفع عنه الطلاق وإن عجز واستحمق وهو استفهام إنكار ، وتقديره نعم تحسب ولا يمتنع احتسابها لعجزه وحماقته .
قال : القاضي : أي إن عجز عن الرجعة وفعل فعل الأحمق . والقائل لهذا الكلام هو ابن عمر صاحب القصة ، وأعاد الضمير بلفظ الغيبة وقد بينه بعد هذه في رواية nindex.php?page=showalam&ids=12336أنس بن سيرين . قال : قلت - يعني nindex.php?page=showalam&ids=12لابن عمر - فاعتددت بتلك التطليقة التي طلقت وهي حائض . قال : ما لي لا أعتد بها وإن كنت عجزت واستحمقت ؟ وجاء في غير مسلم أن ابن عمر قال : أرأيت إن كان ابن عمر عجز واستحمق فما يمنعه أن يكون طلاقا ؟