وقوله صلى الله عليه وسلم : ( اعرف عفاصها ) معناه : تعرف لتعلم صدق واصفها من كذبه ، ولئلا يختلط بماله ويشتبه ، وأما ( العفاص ) فبكسر العين وبالفاء والصاد المهملة ، وهو : الوعاء الذي تكون فيه النفقة جلدا كان أو غيره ، ويطلق العفاص أيضا على الجلد الذي يكون على رأس القارورة ; لأنه كالوعاء له ، فأما الذي يدخل في فم القارورة من خشب أو جلد أو خرقة مجموعة ونحو ذلك فهو الصمام بكسر الصاد ، يقال : عفصتها عفصا إذا شددت العفاص عليها ، وأعفصتها إعفاصا [ ص: 386 ] إذا جعلت لها عفاصا ، وأما ( الوكاء ) فهو الخيط الذي يشد به الوعاء ، يقال : أوكيته إيكاء فهو موكى بلا همز .
قوله صلى الله عليه وسلم : ( فشأنك بها ) هو بنصب النون .
وأما قوله صلى الله عليه وسلم : ( معها سقاؤها ) فمعناه : أنها تقوى على ورود المياه ، وتشرب في اليوم الواحد وتملأ كرشها ، بحيث يكفيها الأيام . وأما ( حذاؤها ) فبالمد ، وهو : أخفافها ; لأنها تقوى بها على السير وقطع المفاوز .
وفي هذا الحديث : جواز قول : " رب المال ، ورب المتاع ، ورب الماشية " بمعنى صاحبها الآدمي ، وهذا هو الصحيح الذي عليه جماهير العلماء ، ومنهم من كره إضافته إلى ما له روح دون المال والدار ونحوه ، وهذا غلط لقوله صلى الله عليه وسلم : ( فإن جاء ربها فأدها إليه ) و ( حتى يلقاها ربها ) . وفي حديث عمر - رضي الله عنه - ( وإدخال رب الصريمة والغنيمة ) ونظائر ذلك كثيرة . والله أعلم .
وأما قوله صلى الله عليه وسلم : ( ثم عرفها سنة ) فمعناه إذا أخذتها فعرفها سنة ، فأما الأخذ فهل هو واجب أم مستحب ؟ فيه مذاهب ، ومختصر ما ذكره أصحابنا ثلاثة أقوال : أصحها عندهم : يستحب ولا يجب ، والثاني : يجب ، والثالث إن كانت اللقطة في موضع يأمن عليها إذا تركها استحب الأخذ ، وإلا وجب .
وأما ( تعريف سنة ) فقد أجمع المسلمون على وجوبه إذا كانت اللقطة ليست تافهة ، ولا في معنى التافهة ، ولم يرد حفظها على صاحبها ; بل أراد تملكها . ولا بد من تعريفها سنة بالإجماع ، فأما إذا لم يرد تملكها ، بل أراد حفظها على صاحبها فهل يلزمه التعريف ؟ فيه وجهان لأصحابنا :
أحدهما : لا يلزمه ; بل إن جاء صاحبها وأثبتها دفعها إليه ، وإلا دام حفظها .
والثاني : وهو الأصح ، أنه يلزمه التعريف لئلا تضيع على صاحبها ; فإنه لا يعلم أين هي حتى يطلبها ، فوجب تعريفها .
وأما الشيء الحقير فيجب تعريفه زمنا يظن أن فاقده لا يطلبه في العادة أكثر من ذلك الزمان ، قال أصحابنا : والتعريف أن ينشدها في الموضع الذي وجدها فيه ، وفي الأسواق ، وأبواب المساجد ، ومواضع اجتماع الناس ، [ ص: 387 ] فيقول : من ضاع منه شيء ؟ من ضاع منه حيوان ؟ من ضاع منه دراهم ؟ ونحو ذلك ، ويكرر ذلك بحسب العادة ، قال أصحابنا : فيعرفها أولا في كل يوم ، ثم في الأسبوع ، ثم في أكثر منه . والله أعلم .
قوله صلى الله عليه وسلم : ( فإن جاء صاحبها وإلا فشأنك بها ) معناه : إن جاءها صاحبها فادفعها إليه ، وإلا فيجوز لك أن تتملكها ، قال أصحابنا : إذا عرفها فجاء صاحبها في أثناء مدة التعريف أو بعد انقضائها وقبل أن يتملكها الملتقط ، فأثبت أنه صاحبها أخذها بزيادتها المتصلة والمنفصلة ، فالمتصلة كالسمن في الحيوان ، وتعليم صنعة ، ونحو ذلك ، والمنفصلة كالولد واللبن والصوف واكتساب العبد ، ونحو ذلك .
وأما إن جاء من يدعيها ولم يثبت ذلك ، فإن لم يصدقه الملتقط لم يجز له دفعها إليه ، وإن صدقه جاز له الدفع إليه ، ولا يلزمه حتى يقيم البينة ، هذا كله إذا جاء قبل أن يتملكها الملتقط ، فأما إذا عرفها سنة ولم يجد صاحبها ، فله أن يديم حفظها لصاحبها ، وله أن يتملكها ، سواء كان غنيا أو فقيرا .
فإن أراد تملكها فمتى يملكها ؟ فيه أوجه لأصحابنا : أصحها : لا يملكها حتى يتلفظ بالتملك بأن يقول : تملكتها ، أو اخترت تملكها ، والثاني : لا يملكها إلا بالتصرف فيها بالبيع ونحوه .
والثالث : يكفيه نية التملك ولا يحتاج إلى لفظ .
والرابع : يملك بمجرد مضي السنة .
فإذا تملكها ، ولم يظهر لها صاحب فلا شيء عليه ، بل هو كسب من أكسابه لا مطالبة عليه به في الآخرة ، وإن جاء صاحبها بعد تملكها أخذها بزيادتها المتصلة دون المنفصلة ، فإن كانت قد تلفت بعد التملك لزم الملتقط بدلها عندنا وعند الجمهور ، وقال داود : لا يلزمه . والله أعلم .
قوله : ( فضالة الغنم ؟ قال : لك أو لأخيك أو للذئب ) معناه الإذن في أخذها ، بخلاف الإبل . وفرق صلى الله عليه وسلم بينهما ، وبين الفرق بأن الإبل مستغنية عن من يحفظها لاستقلالها بحذائها وسقائها وورودها الماء والشجر ، وامتناعها من الذئاب وغيرها من صغار السباع ، والغنم بخلاف ذلك ، فلك أن تأخذها أنت أو صاحبها ، أو أخوك المسلم الذي يمر بها أو الذئب فلهذا جاز أخذها دون الإبل . ثم إذا أخذها وعرفها سنة ، وأكلها ثم جاء صاحبها لزمته غرامتها عندنا وعند أبي حنيفة رضي الله عنه . وقال مالك : لا تلزمه غرامتها ; لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يذكر له غرامة . واحتج أصحابنا بقوله صلى الله عليه وسلم في الرواية الأخرى : ( فإن جاء صاحبها فأعطها إياه ) وأجابوا عن دليل مالك بأنه لم يذكر في هذه الرواية الغرامة ولا نفاها ، وقد عرف وجوبها بدليل آخر .