قوله : ( ورسول الله صلى الله عليه وسلم على بغلة له بيضاء أهداها له فروة بن نفاثة الجذامي ) أما قوله : ( بغلة بيضاء ) فكذا قال في هذه الرواية ، ورواية أخرى بعدها : ( إنها بغلة بيضاء ) وقال في آخر الباب : ( على بغلته الشهباء ) وهي واحدة ، قال العلماء : لا يعرف له صلى الله عليه وسلم بغلة سواها ، وهي التي يقال لها : ( دلدل ) وأما قوله : ( أهداها له فروة بن نفاثة ) فهو بنون مضمومة ثم فاء مخففة ثم ألف ثم ثاء مثلثة ، وفي الرواية التي بعدها رواية إسحاق بن إبراهيم قال : ( فروة بن نعامة ) بالعين والميم ، والصحيح المعروف الأول ، قال القاضي : واختلفوا في إسلامه فقال الطبري : أسلم وعمر عمرا طويلا ، وقال غيرهم : لم يسلم ، وفي صحيح nindex.php?page=showalam&ids=12070البخاري أن الذي أهداها له ملك أيلة ، واسم ملك أيلة فيما ذكره ابن إسحاق : ( يحنة بن روبة ) ، والله أعلم .
فإن قيل : ففي هذا الحديث قبوله صلى الله عليه وسلم هدية الكافر ، وفي الحديث الآخر : nindex.php?page=hadith&LINKID=3506547هدايا العمال غلول مع حديث ابن اللتبية - عامل الصدقات - وفي الحديث الآخر أنه رد بعض هدايا المشركين وقال : nindex.php?page=hadith&LINKID=3506548إنا لا نقبل زبد المشركين أي رفدهم فكيف يجمع بين هذه الأحاديث ؟ قال القاضي - رضي الله عنه - : قال بعض العلماء : إن هذه الأحاديث ناسخة لقبول الهدية ، قال : وقال الجمهور : لا نسخ ، بل سبب القبول أن النبي صلى الله عليه وسلم مخصوص بالفيء الحاصل بلا قتال ، بخلاف غيره ، فقبل النبي صلى الله عليه وسلم ممن طمع في إسلامه وتأليفه لمصلحة يرجوها للمسلمين ، وكافأ بعضهم ورد هدية من لم يطمع في إسلامه ولم يكن في قبولها مصلحة ; لأن الهدية توجب المحبة والمودة ، وأما غير النبي صلى الله عليه وسلم من العمال والولاة فلا يحل له قبولها لنفسه عند جمهور العلماء ، فإن قبلها كانت فيئا للمسلمين ، فإنه لم يهدها إليه إلا لكونه إمامهم ، وإن كانت من قوم هو محاصرهم ، فهي غنيمة ، قال القاضي : وهذا قول الأوزاعي ومحمد بن الحسن [ ص: 456 ] وابن القاسم وابن حبيب وحكاه ابن حبيب عمن لقيه من أهل العلم ، وقال آخرون : هي للإمام خالصة ، به قال أبو يوسف وأشهب nindex.php?page=showalam&ids=15968وسحنون ، وقال الطبري : إنما رد النبي صلى الله عليه وسلم من هدايا المشركين ما علم أنه أهدي له في خاصة نفسه ، وقيل : ما كان خلاف ذلك مما فيه استئلاف المسلمين ، قال : ولا يصح قول من ادعى النسخ ، قال : وحكم الأئمة بعد إجراؤها مجرى مال الكفار من الفيء أو الغنيمة بحسب اختلاف الحال ، وهذا معنى " nindex.php?page=hadith&LINKID=3506549هدايا العمال غلول " أي إذا خصوا بها أنفسهم ; لأنها لجماعة المسلمين بحكم الفيء والغنيمة ، قال القاضي : وقيل : إنما قبل النبي صلى الله عليه وسلم هدايا كفار أهل الكتاب ممن كان على النصرانية كالمقوقس وملوك الشام فلا معارضة بينه وبين قوله صلى الله عليه وسلم " nindex.php?page=hadith&LINKID=3506550لا يقبل زبد المشركين " وقد أبيح لنا ذبائح أهل الكتاب ومناكحتهم بخلاف المشركين عبدة الأوثان ، هذا آخر كلام القاضي عياض ، وقال أصحابنا : متى أخذ القاضي أو العامل هدية محرمة لزمه ردها إلى مهديها ، فإن لم يعرفه وجب عليه أن يجعلها في بيت المال . والله أعلم .
قوله : ( ورسول الله صلى الله عليه وسلم على بغلة له بيضاء ) قال العلماء : ركوبه صلى الله عليه وسلم البغلة في موطن الحرب وعند اشتداد الناس هو النهاية في الشجاعة والثبات ، ولأنه أيضا يكون معتمدا يرجع المسلمون إليه وتطمئن قلوبهم به وبمكانه ، وإنما فعل هذا عمدا وإلا فقد كانت له صلى الله عليه وسلم أفراس معروفة ، ومما ذكره في هذا الحديث من شجاعته صلى الله عليه وسلم تقدمه يركض بغلته إلى جمع المشركين ، وقد فر الناس عنه . وفي الرواية الأخرى : أنه نزل إلى الأرض حين غشوه ، وهذه مبالغة في الثبات والشجاعة والصبر ، وقيل : فعل ذلك مواساة لمن كان نازلا على الأرض من المسلمين ، وقد أخبرت الصحابة - رضي الله تعالى عنهم - بشجاعته صلى الله عليه وسلم في جميع المواطن ، وفي صحيح مسلم قال : nindex.php?page=hadith&LINKID=3506551إن الشجاع منا الذي يحاذي به ، وإنهم كانوا يتقون به .
قوله صلى الله عليه وسلم : ( أي عباس ناد أصحاب السمرة ) هي الشجرة التي بايعوا تحتها بيعة الرضوان ، ومعناه : ناد أهل بيعة الرضوان يوم الحديبية .
قوله : ( فقال عباس وكان رجلا صيتا ) ذكر nindex.php?page=showalam&ids=14065الحازمي في المؤتلف أن العباس - رضي الله تعالى عنه - كان يقف على سلع فينادي غلمانه في آخر الليل وهم في الغابة فيسمعهم ، قال : وبين سلع والغابة ثمانية أميال .
قوله : ( فوالله لكأن عطفتهم حين سمعوا صوتي عطفة البقر على أولادها فقالوا : يا لبيك يا لبيك ) قال العلماء : في هذا الحديث دليل على أن فرارهم لم يكن بعيدا ، وأنه لم يحصل الفرار من جميعهم ، وإنما فتحه عليهم من في قلبه مرض من مسلمة أهل مكة المؤلفة ، ومشركيها الذين لم يكونوا أسلموا ، وإنما كانت هزيمتهم فجأة لانصبابهم عليهم دفعة واحدة ورشقهم بالسهام ، ولاختلاط أهل مكة معهم ممن لم يستقر الإيمان في قلبه ، وممن يتربص [ ص: 457 ] بالمسلمين الدوائر ، وفيهم نساء وصبيان خرجوا للغنيمة فتقدم إخفاؤهم فلما رشقوهم بالنبل ولوا فانقلبت أولاهم على أخراهم إلى أن أنزل الله تعالى سكينته على المؤمنين كما ذكر الله تعالى في القرآن .
قوله : ( فاقتتلوا والكفار ) هكذا هو في النسخ ، وهو بنصب الكفار أي مع الكفار .
قوله : ( والدعوة في الأنصار ) هي بفتح الدال يعني الاستغاثة والمناداة إليهم .
قوله صلى الله عليه وسلم : ( هذا حين حمي الوطيس ) هو بفتح الواو وكسر الطاء المهملة وبالسين المهملة ، قال الأكثرون : هو شبه التنور يسجر فيه ، ويضرب مثلا لشدة الحرب التي يشبه حرها حره ، وقد قال آخرون : الوطيس هو التنور نفسه ، وقال الأصمعي : هي حجارة مدورة إذا حميت لم يقدر أحد يطأ عليها فيقال : الآن حمي الوطيس ، وقيل : هو الضرب في الحرب ، وقيل : هو الحرب الذي يطيس الناس أي يدقهم ، قالوا : وهذه اللفظة من فصيح الكلام وبديعه ، الذي لم يسمع من أحد قبل النبي صلى الله عليه وسلم .