وأما إعطاء أبي عبيدة إياهم تمرة تمرة فإنما كان في الحال الثانية بعد أن فني زادهم ، وطال لبثهم ، كما فسره في الرواية الأخيرة .
فالرواية الأولى معناها الإخبار عن آخر الأمر لا عن أوله ، والظاهر أن قوله : ( تمرة تمرة ) إنما كان بعد أن قسم عليهم قبضة قبضة ، فلما قل تمرهم قسمه عليهم تمرة تمرة ، ثم فرغ وفقدوا التمرة ، وجدوا ألما لفقدها ، وأكلوا الخبط إلى أن فتح الله عليهم بالعنبر .
قوله : ( فجمع أبو عبيدة زادنا في مزود فكان يقوتنا ) هذا محمول على أنه جمعه برضاهم ، وخلطه ليبارك لهم ، كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم ذلك في مواطن ، وكما كان الأشعريون يفعلون ، وأثنى عليهم النبي صلى الله عليه وسلم بذلك ، وقد قال أصحابنا وغيرهم من العلماء : يستحب للرفقة من المسافرين خلط أزوادهم ليكون أبرك وأحسن في العشرة ، وألا يختص بعضهم بأكل دون بعض . والله أعلم .
قوله : ( كهيئة الكثيب الضخم ) هو بالثاء المثلثة ، وهو الرمل المستطيل المحدودب .
معنى الحديث : أن أبا عبيدة - رضي الله عنه - قال أولا باجتهاده : إن هذا ميتة والميتة حرام ، فلا يحل لكم أكلها ، ثم تغير اجتهاده فقال : بل هو حلال لكم ، وإن كان ميتة ؛ لأنكم في سبيل الله ، وقد اضطررتم ، وقد أباح الله تعالى الميتة لمن كان مضطرا غير باغ ولا عاد فكلوا فأكلوا منه .
وأما طلب النبي صلى الله عليه وسلم من لحمه وأكله ذلك ، فإنما أراد به المبالغة في تطييب نفوسهم في حله ، وأنه لا شك في إباحته ، وأنه يرتضيه لنفسه أو أنه قصد التبرك به لكونه طعمة من الله تعالى ، خارقة للعادة أكرمهم الله بها .
وفي هذا دليل على أنه لا بأس بسؤال الإنسان من مال صاحبه ومتاعه إدلالا عليه ، وليس هو من السؤال المنهي عنه ، إنما ذاك في حق الأجانب للتمول ونحوه ، وأما هذه فللمؤانسة والملاطفة والإدلال .
وفيه : إباحة ميتات البحر كلها سواء في ذلك ما مات بنفسه أو باصطياد ، وقد أجمع المسلمون على إباحة السمك ، قال أصحابنا : يحرم الضفدع للحديث في النهي عن قتلها ، قالوا : وفيما سوى ذلك ثلاثة أوجه أصحها : يحل جميعه ؛ لهذا الحديث ، والثاني : لا يحل ، والثالث : يحل ما له نظير مأكول في البر دون ما لا يؤكل نظيره ، فعلى هذا تؤكل خيل البحر ، وغنمه ، وظباؤه دون كلبه وخنزيره وحماره ، قال أصحابنا : والحمار وإن كان في البر منه مأكول وغيره ، ولكن الغالب غير المأكول ، هذا تفصيل مذهبنا .
وممن قال بإباحة جميع حيوانات البحر إلا الضفدع أبو بكر الصديق وعمر وعثمان nindex.php?page=showalam&ids=11وابن عباس - رضي الله عنهم - وأباح مالك الضفدع والجميع ، وقال أبو حنيفة : لا يحل غير السمك ، وأما السمك الطافي وهو الذي يموت في البحر بلا سبب فمذهبنا إباحته ، وبه قال جماهير العلماء من الصحابة فمن بعدهم ، منهم أبو بكر الصديق وأبو أيوب nindex.php?page=showalam&ids=16568وعطاء ومكحول والنخعي nindex.php?page=showalam&ids=16867ومالك وأحمد nindex.php?page=showalam&ids=11956وأبو ثور وداود وغيرهم ، وقال nindex.php?page=showalam&ids=36جابر بن عبد الله nindex.php?page=showalam&ids=11867وجابر بن زيد nindex.php?page=showalam&ids=16248وطاوس nindex.php?page=showalam&ids=11990وأبو حنيفة : لا يحل ، دليلنا قوله تعالى : أحل لكم صيد البحر وطعامه قال ابن عباس والجمهور : صيده ما صدتموه وطعامه ما قذفه ، وبحديث جابر هذا ، وبحديث : nindex.php?page=hadith&LINKID=3506749هو الطهور ماؤه الحل ميتته وهو حديث صحيح ، وبأشياء مشهورة غير ما ذكرنا .
وأما الحديث المروي عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم : nindex.php?page=hadith&LINKID=3506750 " ما ألقاه البحر وجزر عنه فكلوه وما مات فيه فطفا فلا تأكلوه " فحديث ضعيف باتفاق أئمة الحديث ، لا يجوز الاحتجاج به لو لم يعارضه شيء ، كيف وهو معارض بما ذكرناه ؟ وقد أوضحت ضعف رجاله في شرح المهذب في باب الأطعمة ، فإن قيل : لا حجة في حديث العنبر ؛ لأنهم كانوا مضطرين ، قلنا : الاحتجاج بأكل النبي صلى الله عليه وسلم منه في المدينة من غير ضرورة .
قوله : ( nindex.php?page=hadith&LINKID=3506751ولقد رأيتنا نغترف من وقب عينه بالقلال الدهن ونقتطع منه الفدر كالثور أو كقدر الثور ) أما ( الوقب ) فبفتح الواو وإسكان القاف وبالباء الموحدة ، وهو داخل عينه ونقرتها ، و ( القلال ) بكسر القاف جمع [ ص: 77 ] ( قلة ) بضمها ، وهي الجرة الكبيرة التي يقلها الرجل بين يديه أي يحملها ، و ( الفدر ) بكسر الفاء وفتح الدال هي القطع ، وقوله : ( كقدر الثور ) رويناه بوجهين مشهورين في نسخ بلادنا : أحدهما : بقاف مفتوحة ثم دال ساكنة أي مثل الثور . والثاني : ( كفدر ) بفاء مكسورة ثم دال مفتوحة جمع ( فدرة ) ، والأول أصح ، وادعى القاضي أنه تصحيف ، وأن الثاني هو الصواب ، وليس كما قال .
قوله : ( ثم رحل أعظم بعير ) هو بفتح الحاء أي جعل عليه رحلا .
قوله : ( وتزودنا من لحمه وشائق ) هو بالشين المعجمة والقاف ، قال أبو عبيد : هو اللحم يؤخذ فيغلى إغلاء ولا ينضج ويحمل في الأسفار ، يقال : وشقت اللحم فاتشق ، والوشيقة الواحدة منه ، والجمع وشائق ووشق . وقيل : الوشيقة القديد .
قوله : ( ثابت أجسامنا ) أي رجعت إلى القوة .
قوله : ( فأخذ أبو عبيدة ضلعا من أضلاعه فنصبه ) كذا هو في النسخ ( فنصبه ) ، وفي الرواية الأولى : [ ص: 78 ] ( فأقامها ) فأنثها وهو المعروف ، ووجه التذكير أنه أراد به العضو .
قوله : ( وجلس في حجاج عينه نفر ) هو بحاء ثم جيم مخففة ، والحاء مكسورة ومفتوحة ، لغتان مشهورتان ، وهو بمعنى " وقب عينه " المذكور في الرواية السابقة ، وقد شرحناه .
قوله في الرواية الأولى : ( فأقمنا عليه شهرا ) وفي الرواية الثانية : ( فأكلنا منها نصف شهر ) ، وفي الثالثة : ( فأكل منها الجيش ثماني عشرة ليلة ) طريق الجمع بين الروايات أن من روى شهرا هو الأصل ومعه زيادة علم ، ومن روى دونه لم ينف الزيادة ، ولو نفاها قدم المثبت وقد قدمنا مرات أن المشهور الصحيح عند الأصوليين أن مفهوم العدد لا حكم له ، فلا يلزم منه نفي الزيادة لو لم يعارضه إثبات الزيادة ، كيف وقد عارضه ؟ فوجب قبول الزيادة ، وجمع القاضي بينهما بأن من قال : نصف شهر ، أراد أكلوا منه تلك المدة طريا ، ومن قال : شهرا ، أراد أنهم قددوه فأكلوا منه بقية الشهر قديدا . والله أعلم .
[ ص: 79 ] قوله : ( سيف البحر ) هو بكسر السين وإسكان المثناة تحت ، وهو ساحله ، كما قال في الروايتين قبله .
قوله : ( وحدثنا حجاج بن الشاعر ، وذكر في هذا الإسناد أخبرنا أبو المنذر القزاز ) هكذا هو في نسخ بلادنا ( القزاز بالقاف ) ، وفي أكثرها ( البزاز ) بالباء وذكر القاضي أيضا اختلاف الرواة فيه ، والأشهر بالقاف ، وهو الذي ذكره السمعاني في الأنساب وآخرون ، وذكره خلف الواسطي في الأطراف بالباء عن رواية مسلم ، لكن عليه تضبيب فلعله يقال بالوجهين ، فالقزاز بزاز ، وأبو المنذر هو اسمه إسماعيل بن حسين بن المثنى ، كذا سماه nindex.php?page=showalam&ids=12251أحمد بن حنبل فيما ذكره ابن أبي حاتم في كتابه ، واقتصر الجمهور على أنه إسماعيل بن عمر ، قال أبو حاتم : هو صدوق ، وأمر nindex.php?page=showalam&ids=12251أحمد بن حنبل بالكتابة عنه وهو من أفراد مسلم .