جمهور العلماء على أنه حي موجود بين أظهرنا ، وذلك متفق عليه عند الصوفية ، وأهل الصلاح والمعرفة ، وحكاياتهم في رؤيته والاجتماع به والأخذ عنه وسؤاله وجوابه ووجوده في المواضع الشريفة ومواطن الخير أكثر من أن يحصر ، وأشهر من أن يستر .
قال الشيخ nindex.php?page=showalam&ids=12795أبو عمرو بن الصلاح هو حي عند جماهير العلماء والصالحين . والعامة معهم في ذلك . قال : وإنما شذ بإنكاره بعض المحدثين قال الحبري المفسر وأبو عمرو : هو نبي . واختلفوا في كونه مرسلا . وقال القشيري وكثيرون : هو ولي وحكى nindex.php?page=showalam&ids=15151الماوردي في تفسيره ثلاثة أقوال : أحدها نبي ، والثاني ولي ، والثالث أنه من الملائكة وهذا غريب باطل .
قال المازري : اختلف العلماء في الخضر هل هو نبي أو ولي ؟ قال : واحتج من قال بنبوته بقوله : وما فعلته عن أمري فدل على أنه نبي أوحي إليه ، وبأنه أعلم من موسى ، ويبعد [ ص: 519 ] أن يكون ولي أعلم من نبي . وأجاب الآخرون بأنه يجوز أن يكون قد أوحى الله إلى نبي في ذلك العصر أن يأمر الخضر بذلك .
وقال الثعلبي المفسر : الخضر نبي معمر على جميع الأقوال ، محجوب عن الأبصار ، يعني عن أبصار أكثر الناس . قال : وقيل : إنه لا يموت إلا في آخر الزمان حين يرفع القرآن ، وذكر الثعلبي ثلاثة أقوال في أن الخضر كان من زمن إبراهيم الخليل صلى الله عليه وسلم أم بعده بقليل أم بكثير .
كنية الخضر أبو العباس ، واسمه ( بليا ) بموحدة مفتوحة ثم لام ساكنة ثم مثناة تحت ، ابن ( ملكان ) بفتح الميم وإسكان اللام ، وقيل : ( كليان ) . قال nindex.php?page=showalam&ids=13436ابن قتيبة في المعارف : قال nindex.php?page=showalam&ids=17285وهب بن منبه : اسم الخضر ( بليا بن ملكان بن فالغ بن عابر بن شالخ بن أرفخشد بن سام بن نوح ) . قالوا : وكان أبوه من الملوك .
واختلفوا في لقبه الخضر ، فقال الأكثرون : لأنه جلس على فروة بيضاء ، فصارت خضراء ، والفروة وجه الأرض . وقيل : لأنه كان إذا صلى اخضر ما حوله والصواب الأول ، فقد صح في nindex.php?page=showalam&ids=12070البخاري عن nindex.php?page=showalam&ids=3أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " nindex.php?page=hadith&LINKID=3507250إنما سمي الخضر لأنه جلس على فروة فإذا هي تهتز من خلفه خضراء " وبسطت أحواله في تهذيب الأسماء واللغات والله أعلم .
قوله : ( إن نوفا البكالي ) هكذا ضبطه الجمهور بكسر الموحدة وتخفيف الكاف ، ورواه بعضهم بفتحها وتشديد الكاف . قال القاضي : هذا الثاني هو ضبط أكثر الشيوخ وأصحاب الحديث . قال : والصواب الأول ، وهو قول المحققين ، وهو منسوب إلى بني بكال بطن من حمير ، وقيل : من همدان . ونوف هذا هو ابن فضالة ، كذا قاله ابن دريد وغيره ، وهو ابن امرأة كعب الأحبار ، وقيل : ابن أخيه ، والمشهور الأول ، قاله ابن أبي حاتم وغيره . قالوا : وكنيته أبو يزيد ، وقيل : أبو رشد ، وكان عالما حكيما قاضيا وإماما لأهل دمشق .
قوله : ( كذب عدو الله ) قال العلماء : هو على وجه الإغلاظ والزجر عن مثل قوله ، لا أنه يعتقد أنه عدو الله حقيقة ، إنما قاله مبالغة في إنكار قوله لمخالفته قول رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكان ذلك في حال غضب ابن عباس لشدة إنكاره ، وحال الغضب تطلق الألفاظ ولا تراد بها حقائقها . والله أعلم .
قوله : ( أنا أعلم ) أي في اعتقاده ، وإلا فكان الخضر أعلم منه كما صرح به في الحديث .
[ ص: 520 ] قوله صلى الله عليه وسلم : ( فعتب الله عليه إذ لم يرد العلم إليه ) أي كان حقه أن يقول : الله أعلم ، فإن مخلوقات الله تعالى لا يعلمها إلا هو . قال الله تعالى : وما يعلم جنود ربك إلا هو .
واستدل العلماء بسؤال موسى السبيل إلى لقاء الخضر صلى الله عليه وسلم على استحباب الرحلة في طلب العلم ، واستحباب الاستكثار منه ، وأنه يستحب للعالم وإن كان من العلم بمحل عظيم أن يأخذه ممن هو أعلم منه ، ويسعى إليه في تحصيله ، وفيه فضيلة طلب العلم وفي تزوده الحوت وغيره جواز التزود في السفر .
وفي هذا الحديث الأدب مع العالم ، وحرمة المشايخ ، وترك الاعتراض عليهم ، وتأويل ما لا يفهم ظاهره من أفعالهم وحركاتهم وأقوالهم ، والوفاء بعهودهم ، والاعتذار عند مخالفة عهدهم . وفيه إثبات كرامات الأولياء على قول من يقول : الخضر ولي . وفيه جواز سؤال الطعام عند الحاجة ، وجواز إجارة السفينة ، وجواز ركوب السفينة والدابة وسكنى الدار ولبس الثوب ونحو ذلك بغير أجرة برضى صاحبه لقوله : ( حملونا بغير نول ) . وفيه الحكم بالظاهر حتى يتبين خلافه لإنكار موسى .
قال القاضي : واختلف العلماء في قول موسى : لقد جئت شيئا إمرا و شيئا نكرا أيهما أشد ؟ فقيل : إمرا لأنه العظيم ، ولأنه في مقابلة خرق السفينة الذي يترتب عليه في العادة هلاك الذي فيها وأموالهم ، وهو أعظم من قتل الغلام ، فإنها نفس واحد . وقيل : نكرا أشد لأنه ما قاله عند مباشرة القتل حقيقة ، وأما القتل في خرق السفينة فمظنون ، وقد يسلمون في العادة ، وقد سلموا في هذه القضية ، وليس فيه ما هو محقق إلا مجرد الخرق ، والله أعلم .
قوله : ( احمل حوتا في مكتل فحيث تفقد الحوت فهو ثم ) الحوت السمكة ، وكانت سمكة مالحة كما صرح به في الرواية الثانية ، والمكتل بكسر الميم وفتح المثناة فوق ، وهو القفة والزبيل ، وسبق بيانه مرات . وتفقده بكسر القاف أي يذهب منك ، يقال : فقده وافتقده . وثم بفتح الثاء أي هناك .
قوله صلى الله عليه وسلم : ( وانطلق معه فتاه ) وهو يوشع بن نون معنى فتاه صاحبه ، ونون مصروف كنوح ، وهذا الحديث يرد قول من قال من المفسرين إن فتاه عبد له وغير ذلك من الأقوال الباطلة . قالوا وهو يوشع بن نون بن إفراثيم بن يوسف صلى الله عليه وسلم .
[ ص: 521 ] قوله صلى الله عليه وسلم : ( وأمسك الله عنه جرية الماء حتى كان مثل الطاق ) أما ( الجرية ) فبكسر الجيم . والطاق عقد البناء ، وجمعه طيقان وأطواق ، وهو الأزج ، وما عقد أعلاه من البناء وبقي ما تحته خاليا .
قوله صلى الله عليه وسلم : ( فانطلقا بقية يومهما وليلتهما ) ضبطوه بنصب ليلتهما وجرها . والنصب التعب . قالوا : لحقه النصب والجوع ليطلب الغذاء ، فيتذكر به نسيان الحوت ، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم : ولم ينصب حتى جاوز المكان الذي أمر به " .
قوله : ( واتخذ سبيله في البحر عجبا ) قيل : إن لفظة عجبا يجوز أن تكون من تمام كلام يوشع ، وقيل : من كلام موسى ، أي قال موسى : عجبت من هذا عجبا ، وقيل : من كلام الله تعالى ، ومعناه اتخذ موسى سبيل الحوت في البحر عجبا . قوله ( ما كنا نبغي ) أي نطلب ، معناه أن الذي جئنا نطلبه هو الموضع الذي نفقد فيه الحوت .
[ ص: 522 ] المسجى المغطى . وأنى أي من أين السلام في هذه الأرض التي لا يعرف فيها السلام ؟ قال العلماء : ( أنى ) تأتي بمعنى أين ، ومتى ، وحيث ، وكيف . ( وحملوهما بغير نول ) بفتح النون وإسكان الواو أي بغير أجر ، والنول والنوال العطاء .
قوله : لتغرق أهلها قرئ في السبع بضم التاء المثناة فوق ونصب أهلها ، وبفتح المثناة تحت ورفع أهلها
( لقد جئت شيئا إمرا ) أي عظيما كثير الشدة ( ولا ترهقني ) أي تغشني وتحملني .
قوله : أقتلت نفسا زكية بغير نفس لقد جئت شيئا نكرا قرئ في السبع ( زاكية ) و ( زكية ) قالوا : ومعناه طاهرة من الذنوب . وقوله : بغير نفس أي بغير قصاص لك عليها . والنكر المنكر . وقرئ في السبع بإسكان الكاف وضمها ، والأكثرون بالإسكان .
قال العلماء : وقوله : إذا غلام يلعب فقتله دليل على أنه كان صبيا ليس ببالغ ؛ لأنه حقيقة الغلام ، وهذا قول الجمهور أنه لم يكن بالغا . وزعمت طائفة أنه كان بالغا يعمل بالفساد ، واحتجت بقوله : ( أقتلت نفسا زكية بغير نفس ؟ ) فدل على أنه ممن يجب عليه القصاص ، والصبي لا قصاص عليه ، وبقوله : ( كان كافرا ) في قراءة ابن عباس كما ذكر في آخر الحديث ، والجواب عن الأول من وجهين . أحدهما أن المراد التنبه على أنه قتل بغير حق ، والثاني أنه يحتمل أن شرعهم كان إيجاب القصاص على الصبي ، كما أنه في شرعنا يؤاخذ بغرامة المتلفات . والجواب عن الثاني من وجهين : أحدهما أنه شاذ لا حجة فيه ، والثاني أنه سماه بما يؤول إليه لو عاش كما جاء في الرواية الثانية .
قوله قد بلغت من لدني عذرا فيه ثلاث قراءات في السبع : الأكثرون بضم الدال وتشديد [ ص: 523 ] النون ، والثانية بالضم وتخفيف النون ، والثالثة بإسكان الدال وإشمامها الضم وتخفيف النون ، ومعناه قد بلغت إلى الغاية التي تعذر بسببها في فراقي .
قوله تعالى : فانطلقا حتى إذا أتيا أهل قرية قال الثعلبي : قال ابن عباس : هي أنطاكية ، وقال ابن سيرين : الأيلة ، وهي أبعد الأرض من السماء .
قوله تعالى : فوجدا فيها جدارا يريد أن ينقض هذا من المجاز لأن الجدار لا يكون له حقيقة إرادة ، ومعناه قرب من الانقضاض ، وهو السقوط .
واستدل الأصوليون بهذا على وجود المجاز في القرآن ، وله نظائر معروفة . قال nindex.php?page=showalam&ids=17285وهب بن منبه : كان طول هذا الجدار إلى السماء مائة ذراع .
قوله : لو شئت لتخذت عليه أجرا قرئ بالسبع ( لتخذت ) بتخفيف التاء وكسر الخاء ، ولاتخذت بالتشديد وفتح الخاء أي لأخذت عليه أجرة تأكل بها .
قوله صلى الله عليه وسلم : ( وجاء عصفور حتى وقع على حرف السفينة ثم نقر في البحر فقال له الخضر : ما نقص علمي وعلمك من علم الله تعالى إلا مثل ما نقص هذا العصفور من البحر )
قال العلماء : لفظ ( النقص ) هنا ليس على ظاهره ، وإنما معناه أن علمي وعلمك بالنسبة إلى علم الله تعالى كنسبة ما نقره هذا العصفور إلى ماء البحر ، هذا على التقريب إلى الأفهام ، وإلا فنسبة علمهما أقل وأحقر .
قال القاضي : وقال بعض من أشكل عليه هذا الحديث : ( إلا ) هنا بمعنى ( ولا ) أي ولا نقص علمي . وعلمك من علم الله ولا مثل ما أخذ هذا العصفور ، لأن علم الله تعالى لا يدخله نقص . قال القاضي : ولا حاجة إلى هذا التكلف ، بل هو صحيح كما بينا . والله أعلم .