قوله : ( كان يعجبهم هذا الحديث لأن إسلام جرير كان بعد نزول المائدة ) معناه أن الله تعالى [ ص: 506 ] قال في سورة المائدة : فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وامسحوا برءوسكم وأرجلكم فلو كان إسلام جرير متقدما على نزول المائدة لاحتمل كون حديثه في مسح الخف منسوخا بآية المائدة ، فلما كان إسلامه متأخرا علمنا أن حديثه يعمل به ، وهو مبين أن المراد بآية المائدة غير صاحب الخف فتكون السنة مخصصة للآية . والله أعلم .
وروينا في سنن nindex.php?page=showalam&ids=13933البيهقي عن nindex.php?page=showalam&ids=12358إبراهيم بن أدهم قال : ما سمعت في المسح على الخفين أحسن من حديث جرير . والله أعلم .
قوله : ( nindex.php?page=hadith&LINKID=3504481كنت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - فانتهى إلى سباطة قوم فبال قائما فتنحيت فقال : ادنه فدنوت حتى قمت عند عقبيه فتوضأ فمسح على خفيه ) أما ( السباطة ) فبضم السين المهملة وتخفيف الباء الموحدة ، وهي ملقى القمامة والتراب ونحوهما تكون بفناء الدور مرفقا لأهلها . قال nindex.php?page=showalam&ids=14228الخطابي : ويكون ذلك في الغالب سهلا منثالا يحد فيه البول ولا يرتد على البائل ، وأما سبب بوله - صلى الله عليه وسلم - قائما فذكر العلماء فيه أوجها حكاها nindex.php?page=showalam&ids=14228الخطابي nindex.php?page=showalam&ids=13933والبيهقي وغيرهما من الأئمة أحدها : قالا : وهو مروي عن nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي أن العرب كانت تستشفي لوجع الصلب بالبول قائما ، قال فترى أنه كان به - صلى الله عليه وسلم - وجع الصلب إذ ذاك ؟ والثاني : أن سببه ما روي في رواية ضعيفة رواها nindex.php?page=showalam&ids=13933البيهقي وغيره : أنه - صلى الله عليه وسلم - بال قائما لعلة بمأبضه و ( المأبض ) بهمزة ساكنة بعد الميم ثم موحدة وهو باطن الركبة ، والثالث : أنه لم يجد مكانا للقعود فاضطر إلى القيام لكون الطرف الذي من السباطة كان عاليا مرتفعا ، وذكر الإمام أبو عبد الله المازري nindex.php?page=showalam&ids=14961والقاضي عياض - رحمهما الله تعالى - وجها رابعا وهو : أنه بال قائما لكونها حالة يؤمن فيها خروج الحدث من السبيل الآخر في الغالب بخلاف حالة القعود ، ولذلك قال عمر : البول قائما أحصن للدبر ، ويجوز وجه خامس : أنه - صلى الله عليه وسلم - فعله للجواز في هذه المرة ، وكانت عادته المستمرة يبول قاعدا ، يدل عليه حديث عائشة - رضي الله عنها - قالت : nindex.php?page=hadith&LINKID=3504482من حدثكم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يبول قائما فلا تصدقوه ما كان يبول إلا قاعدا . رواه nindex.php?page=showalam&ids=12251أحمد بن حنبل nindex.php?page=showalam&ids=13948والترمذي nindex.php?page=showalam&ids=15397والنسائي وآخرون ، وإسناده جيد . والله أعلم .
وقد روي في النهي عن البول قائما أحاديث لا تثبت ، ولكن حديث عائشة هذا ثابت فلهذا قال العلماء : [ ص: 507 ] يكره البول قائما إلا لعذر ، وهي كراهة تنزيه لا تحريم . قال ابن المنذر في الإشراق : اختلفوا في البول قائما فثبت عن nindex.php?page=showalam&ids=2عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - nindex.php?page=showalam&ids=47وزيد بن ثابت nindex.php?page=showalam&ids=12وابن عمر nindex.php?page=showalam&ids=31وسهل بن سعد أنهم بالوا قياما ، قال وروي ذلك عن أنس وعلي nindex.php?page=showalam&ids=3وأبي هريرة - رضي الله عنهم - . وفعل ذلك ابن سيرين nindex.php?page=showalam&ids=16561وعروة بن الزبير ، وكرهه ابن مسعود nindex.php?page=showalam&ids=14577والشعبي وإبراهيم بن سعد ، وكان إبراهيم بن سعد لا يجيز شهادة من بال قائما ، وفيه قول ثالث : أنه كان في مكان يتطاير إليه من البول شيء فهو مكروه ، فإن كان لا يتطاير فلا بأس به . وهذا قول مالك قال ابن المنذر : البول جالسا أحب إلي وقائما مباح ، وكل ذلك ثابت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . هذا كلام ابن المنذر . والله أعلم .
وأما بوله - صلى الله عليه وسلم - في سباطة قوم فيحتمل أوجها : أظهرها : أنهم كانوا يؤثرون ذلك ولا يكرهونه بل يفرحون به ، ومن كان هذا حاله جاز البول في أرضه ، والأكل من طعامه ، ونظائر هذا في السنة أكثر من أن تحصى . وقد أشرنا إلى هذه القاعدة في كتاب الإيمان في حديث nindex.php?page=showalam&ids=3أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : ( احتفزت كما يحتفز الثعلب ) . والوجه الثاني : أنها لم تكن مختصة بهم بل كانت بفناء دورهم للناس كلهم فأضيفت إليهم لقربها منهم . والثالث : أن يكونوا أذنوا لمن أراد قضاء الحاجة إما بصريح الإذن وإما بما في معناه . والله أعلم .
وأما بوله - صلى الله عليه وسلم - في السباطة التي بقرب الدور مع أن المعروف من عادته - صلى الله عليه وسلم - التباعد في المذهب ، فقد ذكر القاضي عياض - رضي الله عنه - أن سببه : أنه - صلى الله عليه وسلم - كان من الشغل بأمور المسلمين والنظر في مصالحهم بالمحل المعروف ، فلعله طال عليه مجلس حتى حفزه البول فلم يمكنه التباعد ، ولو أبعد لتضرر ، وارتاد السباطة لدمثها ، وأقام حذيفة بقربه ليستره عن الناس . وهذا الذي قاله القاضي حسن ظاهر . والله أعلم .
وأما قوله : ( فتنحيت فقال ادنه فدنوت حتى قمت عند عقبيه ) قال العلماء : إنما استدناه - صلى الله عليه وسلم - ليستتر به عن أعين الناس وغيرهم من الناظرين لكونها حالة يستخفى بها ويستحيى منها في العادة ، وكانت الحاجة التي يقضيها بولا من قيام يؤمن معها خروج الحدث الآخر والرائحة الكريهة ، فلهذا استدناه . وجاء في الحديث الآخر لما أراد قضاء الحاجة قال : ( تنح ) لكونه كان يقضيها قاعدا ، ويحتاج إلى الحدثين جميعا فتحصل الرائحة الكريهة وما يتبعها . ولهذا قال بعض العلماء في هذا الحديث : من السنة القرب من البائل إذا كان قائما ، فإذا كان قاعدا فالسنة الإبعاد عنه . والله تعالى أعلم .
واعلم أن هذا الحديث مشتمل على أنواع من الفوائد تقدم بسط أكثرها فيما ذكرناه ، ونشير إليها هاهنا مختصرة ، ففيه : إثبات المسح على الخفين . وفيه : جواز المسح في الحضر . وفيه جواز البول قائما . وجواز قرب الإنسان من البائل . وفيه : جواز طلب البائل من صاحبه الذي يدل عليه القرب منه ليستره . وفيه : استحباب الستر . وفيه : جواز البول بقرب الديار . وفيه غير ذلك . والله أعلم .