اعلم أن مذهب أهل السنة إثبات عذاب القبر ، وقد تظاهرت عليه دلائل الكتاب والسنة ، قال الله تعالى : النار يعرضون عليها غدوا وعشيا الآية وتظاهرت به الأحاديث الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم من رواية جماعة من الصحابة في مواطن كثيرة ، ولا يمتنع في العقل أن يعيد الله تعالى الحياة في جزء من الجسد ويعذبه ، وإذا لم يمنعه العقل وورد الشرع به وجب قبوله واعتقاده ، وقد ذكر مسلم هنا أحاديث كثيرة في إثبات عذاب القبر ، وسماع النبي صلى الله عليه وسلم صوت من يعذب فيه ، وسماع الموتى قرع نعال دافنيهم ، وكلامه صلى الله عليه وسلم لأهل القليب ، وقوله : ما أنتم بأسمع منهم ، وسؤال الملكين الميت ، وإقعادهما إياه ، وجوابه لهما ، والفسح له في قبره ، وعرض مقعده عليه بالغداة والعشي ، وسبق معظم شرح هذا في كتاب الصلاة ، وكتاب الجنائز ، والمقصود أن مذهب أهل السنة إثبات عذاب القبر كما ذكرنا خلافا للخوارج ، ومعظم المعتزلة ، وبعض المرجئة نفوا ذلك ، ثم المعذب عند أهل السنة الجسد بعينه أو بعضه بعد إعادة الروح إليه أو إلى جزء منه ، وخالف فيه محمد بن [ ص: 324 ] جرير وعبد الله بن كرام وطائفة فقالوا : لا يشترط إعادة الروح ، قال أصحابنا : هذا فاسد ; لأن الألم والإحساس إنما يكون في الحي ، قال أصحابنا : ولا يمنع من ذلك كون الميت تفرقت أجزاؤه كما نشاهد في العادة أو أكلته السباع أو حيتان البحر أو نحو ذلك ، فكما أن الله تعالى يعيده للحشر وهو سبحانه وتعالى قادر على ذلك ، فكذا يعيد الحياة إلى جزء منه أو أجزاء وإن أكلته السباع والحيتان ، فإن قيل فنحن نشاهد الميت على حاله في قبره ، فكيف يسأل ويقعد ويضرب بمطارق من حديد ، ولا يظهر له أثر ؟ فالجواب أن ذلك غير ممتنع ، بل له نظير في العادة وهو النائم ، فإنه يجد لذة وآلاما لا نحس نحن شيئا منها ، وكذا يجد اليقظان لذة وألما لما يسمعه أو يفكر فيه ولا يشاهد ذلك جالسوه منه ، وكذا كان جبرائيل يأتي النبي صلى الله عليه وسلم فيخبره بالوحي الكريم ولا يدركه الحاضرون ، وكل هذا ظاهر جلي ، قال أصحابنا : وأما إقعاده المذكور في الحديث فيحتمل أن يكون مختصا بالمقبور دون المنبوذ ، ومن أكلته السباع والحيتان ، وأما ضربه بالمطارق فلا يمتنع أن يوسع له في قبره فيقعد ويضرب . والله أعلم .
قوله : ( مقعدك حتى يبعثك الله ) هذا تنعيم للمؤمن وتعذيب للكافر .