ذكر
فتح عمورية على يد المعتصم
لما تفرغ
المعتصم من شأن
بابك لعنه الله وقتله وأخذ بلاده ، استدعى بالجيوش إلى بين يديه ، وتجهز جهازا لم يتجهزه أحد كان قبله من الخلفاء ، وأخذ معه من آلات الحرب والأحمال والجمال والقرب والدواب والنفط والخيل والبغال شيئا لم يسمع بمثله ، وسار إليها ، في جحافل كالجبال ، وبعث
الأفشين خيذر بن كاوس من ناحية
سروج وعبأ الخليفة جيشه تعبئة لم يسمع بمثلها ، وقدم بين يديه الأمراء المعروفين بالحرب ، فانتهى في سيره إلى نهر اللمس وهو قريب من
طرسوس وذلك في رجب من هذه السنة
[ ص: 253 ] المباركة .
وقد ركب ملك
الروم في جيشه ، فقصد نحو
المعتصم ، فتقاربا حتى كان بين الجيشين نحو من أربعة فراسخ ، ودخل
الأفشين بلاد
الروم من ناحية أخرى ، فجاء من وراء ملك
الروم ، فحار في أمره وضاق ذرعه بسبب ذلك ؛ إن هو ناجز الخليفة جاءه
الأفشين من خلفه ، فالتقيا عليه فيهلك ، وإن سار إلى أحدهما ، وترك الآخر أخذه من ورائه ، ثم اقترب منه
الأفشين فسار إليه ملك
الروم في شرذمة من الجيش ، واستخلف على بقيته قريبا له ، فالتقى هو
والأفشين في يوم الخميس لخمس بقين من شعبان من هذه السنة ، فثبت
الأفشين في ثاني الحال ، وقتل من
الروم خلقا ، وجرح آخرين ، وتفلت فئة ملك
الروم ، وبلغه أن بقية الجيش قد شردوا عن قرابته وذهبوا عنه وتفرقوا عليه ، فأسرع الأوبة ، فإذا نظام الجيش قد انحل ، فغضب على قرابته وضرب عنقه ، وجاءت الأخبار بذلك كله إلى
المعتصم ، فسره ذلك جدا ، فركب من
[ ص: 254 ] فوره وجاء إلى أنقرة ووافاه
الأفشين بمن معه إلى هنالك ، فوجدوا أهلها قد هربوا منها وتفرقوا عنها فتقووا منها بطعام وعلوفة كثيرة ، ثم فرق
المعتصم جيشه ثلاث فرق ؛ فالميمنة عليها
الأفشين والميسرة عليها
أشناس والمعتصم في القلب ، وبين كل عسكرين فرسخان ، وأمر كل أمير من
الأفشين وأشناس أن يجعل لجيشه ميمنة وميسرة وقلبا ومقدمة وساقة ، وأنهم مهما مروا عليه من القرى حرقوا ، وخربوا ، وأسروا ، وغنموا ، وسار بهم كذلك قاصدا إلى
عمورية وكان بينها وبين أنقرة سبع مراحل ، فأول من وصل إليها من الجيوش
أشناس أمير الميسرة ضحوة يوم الخميس لخمس خلون من رمضان من هذه السنة ، فدار حولها دورة ، ثم نزل على ميلين منها ، ثم قدم
المعتصم صبيحة يوم الجمعة بعده ، فدار حولها دورة ، ثم نزل قريبا منها ، ثم قدم
الأفشين يوم السبت فدار حولها دورة ثم نزل قريبا منها وقد تحصن أهلها ، وملئوا أبراجها بالرجال والسلاح ، وهي مدينة عظيمة كبيرة جدا ذات سور منيع ، وأبراج عالية كبيرة ، وقسم
المعتصم الأبراج على الأمراء ، فنزل كل أمير تجاه الموضع الذي أقطعه ، وعينه له ، ونزل
المعتصم قباله بمكان هناك قد أرشده إليه بعض من كان فيها من المسلمين الأسراء ، وكان قد تنصر عندهم ، وتزوج منهم ، فلما رأى أمير المؤمنين
[ ص: 255 ] والمسلمين معه رجع إلى الإسلام ، وخرج إلى الخليفة ، فأسلم وأعلمه بمكان في السور كان قد هدمه السيل وبني بناء فاسدا بلا أساس ، فنصب
المعتصم المجانيق حول
عمورية فكان أول موضع انهدم ذلك الموضع الذي نصح فيه ذلك الأسير ، فبادر أهل البلد ، فسدوه بالخشب الكبار المتلاصقة ، فألح عليها المنجنيق فكسرها فجعلوا فوقها البرادع ؛ ليردوا حدة الحجر ، فلما ألح عليها المنجنيق لم تغن شيئا ، وانهدم السور من ذلك الجانب ، وتفسخ ، فكتب نائب البلد إلى ملك
الروم يعلمه بذلك ، وبعث ذلك مع غلامين من قومهم ، فلما اجتازوا بالجيش في طريقهم أنكروا أمرهما ، فسألوهما ممن أنتما ؟ فقالا : من أصحاب فلان ، لرجل من المسلمين فحملا إلى
المعتصم فقررهما ، فإذا معهما كتاب
ياطس نائب
عمورية إلى ملك
الروم يعلمه بما حصل لهم من الحصار ، وأنه عازم على الخروج من أبواب البلد بمن معه بغتة فيناجز المسلمين كائنا في ذلك ما
[ ص: 256 ] كان . فلما وقف
المعتصم على ذلك أمر بالغلامين ، فخلع عليهما ، وأن يعطى كل واحد منهما بدرة ، فأسلما من فورهما ، فأمر الخليفة أن يطاف بهما حول البلد ، وعليهما الخلع ، وأن يوقفا تحت الحصن الذي فيه
ياطس ، فينثر عليهما الدراهم والخلع ، ومعهما الكتاب الذي كتب به
ياطس معهما إلى ملك
الروم ، فجعلت
الروم تلعنهما وتسبهما . ثم أمر
المعتصم عند ذلك بتجديد الحرس والاحتفاظ فيه من خروج
الروم بغتة ، فضاقت
الروم ذرعا بذلك ، وألح عليهم المسلمون في الحصار ، وقد أعد
المعتصم عليها المجانيق الكثيرة والدبابات وغير ذلك من آلات الحرب . ولما رأى
المعتصم عمق خندقها ، وارتفاع سورها عمل المجانيق في مقاومة سورها ، وكان قد غنم في الطريق غنما كثيرا جدا ففرقها في الناس ، وقال : ليأكل الرجل الرأس ، وليجىء بملء جلده ترابا فيطرحه في الخندق . ففعل الناس ذلك ، فتساوى الخندق بوجه الأرض من كثرة ما طرح فيه من الأغنام ، ثم أمر بالتراب ، فوضع فوق ذلك حتى صار طريقا ممهدا ، وأمر بالدبابات أن توضع فوقه ، فلم يحوج الله إلى ذلك ، وبينما الناس في الحرس إذ هدم المنجنيق ذلك
[ ص: 257 ] الموضع المعيب من السور ، فلما سقط ما بين البرجين سمع الناس هدة عظيمة ، فظنها من لم يرها أن
الروم قد خرجوا على الناس بغتة ، فبعث
المعتصم من ينادي في الناس : إنما ذلك سقوط السور ، ففرح المسلمون بذلك فرحا شديدا لكن لم يكن يتسع أن يدخل منه الجيش لضيقه عنهم ، فأمر
المعتصم بالمجانيق المتفرقة فجمعت هنالك ونصبت حول ذلك الموضع الذي سقط ، ليضرب بها ما حوله ليتسع لدخول الخيل والرجال . وقوي الحصار هنالك جدا ، وقد وكلت
الروم لكل برج من أبراج السور أميرا يحفظه ، واتفق أن ذلك الأمير الذي انهدم ما عنده من السور ضعف عن مقاومة ما يلقاه من المسلمين ، فذهب إلى
ياطس ، فسأله النجدة ، فامتنع أحد من
الروم أن ينجده ، وقالوا : لا نترك ما نحن بصدده من حفظ أماكننا التي عينت لنا .
فلما يئس منهم خرج إلى
المعتصم ليجتمع به ، فلما وصل إليه أمر
المعتصم المسلمين أن يدخلوا البلد من تلك الثغرة التي قد انهدمت وخلت من
[ ص: 258 ] المقاتلة ، فركب المسلمون نحوها ، فجعلت
الروم يشيرون إليهم لا تحيوا ، ولا يقدرون على دفاعهم ، فلم يلتفت إليهم المسلمون ، ثم تكاثروا عليهم ودخلوا البلد قهرا وتتابع المسلمون إليها يكبرون ، وتفرقت
الروم عن أماكنها ، فجعلوا يقتلونهم في كل مكان حيث وجدوهم وأين ثقفوهم ، وقد حصروهم في كنيسة لهم هائلة ، ففتحوها قسرا وقتلوا من فيها قهرا ، وأحرقوا عليهم باب الكنيسة فأحرقوا عن آخرهم ، ولم يبق فيها موضع محصن سوى المكان الذي فيه النائب وهو
ياطس ، في حصن منيع ، فركب
المعتصم فرسه وجاء حتى وقف بحذاء الحصن الذي فيه
ياطس ، فناداه المنادي : ويحك يا
ياطس ، هذا أمير المؤمنين واقف تجاهك . فقال : ليس
ياطس هاهنا . مرتين . فغضب
المعتصم من ذلك وولى ، فنادى
ياطس : هذا
ياطس ، هذا
ياطس . فرجع الخليفة ونصب السلالم على الحصن ، وطلعت الرسل إليه ، فقالوا له : ويحك ، انزل على حكم أمير المؤمنين . فتمنع ، ثم نزل متقلدا سيفا ، فوضع السيف من
[ ص: 259 ] عنقه ، ثم جيء به حتى أوقف بين يدي
المعتصم ، فضربه بالسوط على رأسه ، ثم أمر به أن يمشي إلى مضرب الخليفة ، فمشى مهانا إلى الوطاق الذي فيه الخليفة نازل ، فأوثق هناك ، وأخذ المسلمون من
عمورية أموالا عظيمة وغنائم لا تحد ولا توصف ، فحملوا ما أمكن حمله ، وأمر
المعتصم بإحراق ما بقي من ذلك ، وبإحراق ما هنالك من المجانيق والدبابات وآلات الحرب ؛ لئلا يتقوى بها
الروم على شيء من حرب المسلمين ، وانصرف راجعا عنها إلى ناحية
طرسوس في أواخر شوال من هذه السنة ، وكانت إقامته على
عمورية خمسة وخمسين يوما .