[ ص: 340 ] ثم دخلت سنة خمس وثلاثين ومائتين
في جمادى الآخرة منها كان
هلاك إيتاخ في السجن ، وذلك أنه رجع من الحج فتلقته هدايا الخليفة ، فلما اقترب يريد دخول
سامراء التي فيها أمير المؤمنين بعث إليه
إسحاق بن إبراهيم نائب
بغداد عن أمر الخليفة يستدعيه إليها ; ليتلقاه وجوه الناس ،
وبني هاشم فدخلها في أبهة عظيمة ، فقبض عليه
إسحاق بن إبراهيم ، وعلى ابنيه
مظفر ومنصور وكاتبيه
سليمان بن وهب وقدامة بن زياد النصراني فأسلم تحت العقوبة ، وكان هلاك
إيتاخ بالعطش ، وذلك أنه أكل أكلا كثيرا بعد جوع شديد ، ثم استقى الماء فلم يسق حتى مات ليلة الأربعاء لخمس خلون من جمادى الآخرة منها . ومكث ولداه في السجن مدة خلافة
المتوكل ، فلما ولي
المنتصر ولد المتوكل أخرجهما .
وفي شوال منها قدم
بغا سامرا ومعه
محمد بن البعيث وأخواه
صقر وخالد ، ونائبه
العلاء ، ومعهم من رءوس أصحابه نحو من مائة وثمانين إنسانا ، فأدخلوا على الجمال ليراهم الناس ، فلما أوقف
ابن البعيث بين يدي
المتوكل أمر بضرب عنقه ، فأحضر السيف والنطع فجاء السيافون فوقفوا حوله ، فقال له
المتوكل : ويلك ، ما دعاك إلى ما فعلت ؟ فقال : الشقوة يا أمير المؤمنين ،
[ ص: 341 ] وأنت الحبل الممدود بين الله وبين خلقه ، وإن لي فيك لظنين ، أسبقهما إلى قلبي أولاهما بك ; وهو العفو . ثم اندفع يقول بديهة :
أبى الناس إلا أنك اليوم قاتلي إمام الهدى والصفح بالمرء أجمل وهل أنا إلا جبلة من خطية
وعفوك من نور النبوة يجبل فإنك خير السابقين إلى العلا
ولا شك أن خير الفعالين تفعل
فقال
المتوكل : إن معه لأدبا . ثم عفا عنه ، ويقال : بل شفع فيه
nindex.php?page=showalam&ids=15268المعتز ابن المتوكل ، فشفعه فيه . ويقال : بل أودع في السجن في قيود ثقيلة ، فلم يزل فيه حتى هرب بعد ذلك ، وقد قال حين هرب :
كم قد قضيت أمورا كان أهملها غيري وقد أخذ الإفلاس بالكظم
لا تعذليني فيما ليس ينفعني إليك عني جرى المقدار بالقلم
سأتلف المال في عسر وفي يسر إن الجواد الذي يعطي على العدم
وفيها أمر
المتوكل على الله أهل الذمة أن يتميزوا عن المسلمين في لباسهم وعمائمهم وثيابهم ، وأن يتطيلسوا بالمصبوغ بالعسلي ، وأن يكون على غلمانهم رقاع - مخالفة للون ثيابهم من خلفهم ومن بين أيديهم ، وأن يلزموا
[ ص: 342 ] بالزنانير الخاصرة لثيابهم كزنانير الفلاحين اليوم ، وأن يحملوا في رقابهم كرات من خشب كثيرة ، وأن لا يركبوا خيلا ، ولتكن ركبهم من خشب إلى غير ذلك من الأمور المذلة لهم المهينة لنفوسهم ، وأن لا يستعملوا في شيء من الدواوين التي يكون لهم فيها حكم على مسلم ، وأمر بتخريب كنائسهم المحدثة ، وبتضييق منازلهم المتسعة ، فيؤخذ منها العشر ، وأن يعملوا ما كان متسعا كبيرا مسجدا ، وأمر بتسوية قبورهم بالأرض ، وكتب بذلك إلى سائر الأقاليم والآفاق ، وإلى كل بلد ورستاق .
وفيها
خرج رجل يقال له : محمود بن الفرج النيسابوري . وهو ممن كان يتردد إلى خشبة
بابك الخرمي وهو مصلوب ، فيقعد قريبا منه ، وذلك بقرب دار الخلافة من سر من رأى ، فادعى أنه نبي ، وأنه ذو القرنين ، وقد اتبعه على هذه الضلالة ، ووافقه في هذه الجهالة جماعة قليلون ، وهم تسعة وعشرون رجلا ، وقد نظم لهم كلاما في مصحف له - قبحه الله - زعم لعنه الله أن
جبريل - عليه السلام - جاءه به من الله فأخذ فرفع أمره إلى
المتوكل فأمر به فضرب بين يديه بالسياط ; فاعترف بما نسب إليه ، وما هو معول عليه ، وأظهر التوبة من ذلك ، والرجوع عنه فأمر الخليفة كل واحد من أتباعه أن يصفعه عشر صفعات ففعلوا ، فعليه وعليهم لعنة رب الأرض والسماوات ، ثم اتفق موته في يوم الأربعاء لثلاث خلون من ذي الحجة من هذه السنة
[ ص: 343 ] وفي يوم السبت لثلاث بقين من ذي الحجة من هذه السنة المباركة أخذ الخليفة
المتوكل على الله العهد من بعده لأولاده الثلاثة وهم :
محمد المنتصر ، ثم
أبو عبد الله المعتز واسمه محمد ، وقيل :
الزبير ، ثم
لإبراهيم وسماه
المؤيد بالله ، ولم يل هذا الخلافة . وأعطى كل واحد منهم طائفة من البلاد يكون نائبا عليها ونوابه فيها ، ويضرب له السكة بها ، وقد عين
ابن جرير ما لكل واحد منهم من البلدان والأقاليم والرساتيق ، وعقد لكل واحد منهم لواءين ، لواء أسود للعهد ، ولواء أبيض للعمالة ، وكتب بينهم كتابا بالرضا منهم بمبايعة الأمراء والكبراء لهم على ذلك ، وكان يوما مشهودا .
وفيها في شهر ذي الحجة هذا منها تغير ماء
دجلة إلى الصفرة ثلاثة أيام ، ثم صار في لون ماء المدود ففزع الناس لذلك .
وفيها أتى
المتوكل بيحيى بن عمر بن زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب من بعض النواحي ، وكان قد اجتمع إليه قوم من
الشيعة فأمر بضربه فضرب ثماني عشرة مقرعة ثم حبس في المطبق .
وحج بالناس
محمد بن داود .
[ ص: 344 ] قال
ابن جرير وفيها توفي
إسحاق بن إبراهيم صاحب الجسر يعني نائب
بغداد في يوم الثلاثاء لسبع بقين من ذي الحجة ، وصير ابنه
محمد مكانه ، وخلع عليه خمس خلع ، وقلد سيفا .
قلت : وقد كان له في نيابة
بغداد والعراق من زمن
المأمون وهو من أكبر الدعاة تبعا لسادته وكبرائه ، إلى القول بخلق القرآن .