[ ص: 573 ] ثم دخلت
سنة سبع وستين ومائتين
فيها وجه
أبو أحمد الموفق ولده
أبا العباس في نحو من عشرة آلاف فارس وراجل في أحسن هيئة ، وأكمل تجمل لقتال
الزنج ، فساروا نحوهم ، فكان بينهم من القتال والنزال في أوقات متعددات ووقعات مشهورات ما يطول بسطه ، وقد استقصاه الإمام
أبو جعفر بن جرير رحمه الله في " تاريخه " مبسوطا .
وحاصل ذلك أنه آل الحال ، وانتهى الحرب والجلاد والجدال والنزال إلى أن
استحوذ أبو العباس بن الموفق على ما كان استولى عليه الزنج ببلاد واسط وأراضي دجلة ، هذا وهو شاب حدث لا خبرة له بالحرب ، ولكن سلمه الله وغنمه ، وأعلى كلمته ، وسدد رميته ، وأجاب دعوته ، وفتح على يديه ، وأسبغ نعمته عليه ، وهذا الشاب هو الذي ولي الخلافة بعد عمه
المعتمد ، ولقب
بالمعتضد كما سيأتي .
ثم ركب
أبو أحمد الموفق ناصر دين الله من
بغداد في صفر من هذه السنة في جيوش كثيفة ، فدخل
واسط في ربيع الأول منها ، فتلقاه ابنه وأخبره عن
[ ص: 574 ] الجيوش الذين معه ، وما تحملوا من أعباء الجهاد ، فخلع عليه وعلى الأمراء كلهم خلعا سنية ، ثم سار بجميع الجيوش إلى صاحب
الزنج وهو بالمدينة التي أنشأها ، وسماها
المنيعة ، فقاتلوا دونها قتالا عظيما فقهرهم ، ودخلها عنوة وهربوا منها ، فبعث في آثارهم جيشا فلحقوهم إلى
البطائح يقتلون ويأسرون ، وغنم
أبو أحمد من
المنيعة شيئا كثيرا ، واستنقذ من النساء المسلمات خمسة آلاف امرأة ، وأمر بإرسالهن إلى أهاليهن
بواسط ، ثم أمر بهدم سور البلد وطم خندقها وجعلها بلقعا بعدما كانت للبشر مجمعا ، وعادت يبابا بعد كونها للخبيث جنابا .
ثم سار
الموفق إلى المدينة التي يقال لها :
المنصورة . من إنشاء
الزنج أيضا وبها
سليمان بن جامع ، فحاصرها وقاتلوه دونها فقتل خلق كثير من الفريقين ، ورمى
أبو العباس بن الموفق أحمد بن مهدي بسهم فأصابه في دماغه فقتله ، وكان من أكابر أمراء صاحب
الزنج فشق ذلك عليه جدا ، وأصبح الناس محاصرين مدينة
الزنج ، وذلك يوم السبت لثلاث بقين من ربيع الآخر والجيوش الموفقية مرتبة أحسن ترتيب ، فتقدم
الموفق فصلى أربع ركعات ، وابتهل إلى الله في الدعاء ، واجتهد في حصارها ، فهزم الله مقاتلتها ، وانتهى إلى
[ ص: 575 ] خندقها ; فإذا هو قد حصن غاية التحصين ، وإذا هم قد جعلوا حول البلد خمسة خنادق وخمسة أسوار ، فجعل كلما جاوز سورا قاتلوه دون الآخر فيقهرهم ويجوزه إلى الذي يليه ، حتى انتهى إلى البلد ، فقتل منهم خلقا كثيرا ، وهرب بقيتهم وأسر من نساء
الزنج ومن حلائل
سليمان بن جامع وذويه نساء كثيرة وصبيانا ، واستنقذ من أيديهم من النساء المسلمات والصبيان من
أهل البصرة والكوفة وواسط نحوا من عشرة آلاف نسمة فسيرهم إلى أهاليهم ، جزاه الله خيرا . ثم أمر بهدم خنادقها وأسوارها وردم خنادقها وأنهارها ، وأقام بها سبعة عشر يوما ، وبعث في آثار من انهزم من
الزنج ، فكان لا يؤتى بأحد منهم إلا استماله إلى الخير برفق ولين وصفح ، وأضافه إلى بعض الأمراء ، وكان مقصوده رجوعهم إلى الحق ، ثم ركب إلى
الأهواز فأجلاهم عنها ، وطردهم منها ، وقتل خلقا كثيرا من أشرافهم ; منهم
أبو عيسى محمد بن إبراهيم البصري ، وكان رئيسا فيهم مطاعا ، وغنم شيئا كثيرا من أموالهم ، وكتب
الموفق إلى صاحب
الزنج - قبحه الله - كتابا يدعوه فيه إلى التوبة والإنابة مما ارتكبه من المآثم والمظالم والمحارم ودعوى النبوة والرسالة وخراب البلدان واستحلال الفروج والأموال ، يبذل له الأمان إن هو رجع إلى الحق ، فلم يرد عليه صاحب
الزنج جوابا .
[ ص: 576 ]