[ ص: 35 ] ثم دخلت
سنة سبع عشرة وثلاثمائة
فيها كان خلع
المقتدر وتولية
القاهر محمد بن المعتضد بالله أخي
المقتدر بالله .
في المحرم من هذه السنة اشتدت
الوحشة بين مؤنس الخادم والخليفة ، فالتف الأمراء على
مؤنس الخادم وتفاقم الحال وآل إلى أن اجتمعوا على
خلع المقتدر بالله وتولية محمد بن المعتضد ، فبايعوه بالخلافة وسلموا عليه بها ، ولقبوه القاهر بالله ، وذلك ليلة السبت للنصف من المحرم من هذه السنة ، وقلد
أبو علي بن مقلة وزارته ، ونهبت دار
المقتدر ، وأخذوا منها شيئا كثيرا ، ووجد لأم
المقتدر ستمائة ألف دينار قد دفنتها في قبر بتربتها ، فحملت إلى بيت المال ، وأخرج
المقتدر وأمه وخالته وخواص جواريه من دار الخلافة ، وذلك بعد محاصرة دار الخلافة ، وهرب من كان بها من الحجبة والخدم منها ، وولي
نازوك الحجوبة مضافا إلى ما بيده من الشرطة ، وألزم
المقتدر بأن كتب على نفسه كتابا بالخلع من الخلافة ، وأشهد على نفسه بذلك جماعة من الأمراء وسلم الكتاب إلى القاضي
أبي عمر محمد بن يوسف ، فقال لولده
أبي الحسين : احتفظ بهذا الكتاب ، فلا يرينه أحد من خلق الله . فلما أعيد
المقتدر إلى الخلافة بعد يومين رده إليه ، فشكره على ذلك جدا وولاه قضاء القضاة . ولما كان يوم الأحد السادس عشر من المحرم جلس القاهر بالله في منصب الخلافة ، وجلس بين يديه الوزير
أبو علي [ ص: 36 ] بن مقلة ، وكتب إلى العمال بالآفاق يخبرهم بولاية القاهر بالخلافة عوضا عن
المقتدر ، وأطلق
علي بن عيسى من السجن ، وزاد في أقطاع جماعة من الأمراء الذين قاموا بنصره ، منهم
أبو الهيجاء بن حمدان .
فلما كان يوم الاثنين جاء الجند فطلبوا أرزاقهم وشغبوا ، وسارعوا إلى
نازوك فقتلوه - وكان مخمورا - ثم صلبوه ، وهرب
الوزير ابن مقلة والحجبة ، ونادوا : يا
مقتدر يا
منصور . ولم يكن
مؤنس يومئذ حاضرا ، وجاءت الجنود إلى بابه يطالبونه
بالمقتدر ، فأغلق بابه ، وحاجف دونه خدمه ، فلما رأى
مؤنس أنه لا بد من تسليم
المقتدر إليهم أمره بالخروج ، فخاف أن يكون حيلة عليه ، ثم تجاسر فخرج ، فحمله الرجال على أعناقهم حتى أدخلوه دار الخلافة ، فسأل عن أخيه القاهر
وأبي الهيجاء بن حمدان ليكتب لهما أمانا ، فما كان عن قريب حتى جاءه خادم ومعه رأس
أبي الهيجاء قد احتزه وأخرجه من بين كتفيه ، وجاء
المقتدر بالله فجلس في الدست ، واستدعى بالقاهر فأجلسه بين يديه واستدناه إليه ، وقبل بين عينيه ، وقال : يا أخي ، أنت لا ذنب لك ، وقد علمت أنك قهرت . والقاهر يقول : الله الله ، نفسي نفسي يا أمير المؤمنين . فقال : وحق رسول الله صلى الله عليه وسلم لا جرى عليك مني سوء أبدا . وعاد
ابن مقلة ، فكتب إلى الآفاق يعلمهم
بعود المقتدر ، وتراجعت الأمور إلى حالها الأول
ببغداد ، واستقر
المقتدر في الخلافة كما كان ، وحمل رأس
نازوك وأبي
الهيجاء بن حمدان ، فنودي عليهما : هذا جزاء من عصى مولاه . وهرب
أبو السرايا بن حمدان إلى
الموصل وكان
ابن نفيس من أشد الناس على
المقتدر ، فلما عاد إلى الخلافة خرج
[ ص: 37 ] من
بغداد متنكرا ، فدخل
الموصل ثم صار إلى
أرمينية ثم لحق بمدينة
القسطنطينية فتنصر مع أهلها ، لعنه الله وإياهم . وأما
مؤنس فإنه لم يكن في الباطن على
المقتدر وإنما وافق جماعة الأمراء مكرها ، ولهذا لما أودع
المقتدر في داره لم ينله منه سوء ، بل كان يطيب قلبه ، ولو شاء لقتله لما طلب من داره ، فلهذا لما عاد إلى الخلافة رجع إلى دار
مؤنس ، فبات بها عنده لثقته به . وقرر
أبا علي بن مقلة على الوزارة ، وولى
محمد بن يوسف أبا عمر قضاء القضاة ، وجعل
محمدا أخاه - وهو القاهر بالله - عند والدته بصفة محتبس عندها ، فكانت تحسن إليه غاية الإحسان ، وتشتري له السراري وتكرمه غاية الإكرام .