[ ص: 755 ] ثم دخلت سنة خمسين وأربعمائة
فيها كانت
فتنة الخبيث البساسيري وهو أرسلان التركي - قبحه الله تعالى - وذلك أن
إبراهيم ينال أخا الملك
طغرلبك ترك
الموصل الذي كان قد استعمله أخوه عليها ، وعدل إلى ناحية بلاد الجبل ، فاستدعاه أخوه وخلع عليه ، وأصلح أمره ، ولكن في غبون ذلك ركب
البساسيري ومعه
قريش بن بدران أمير العرب إلى
الموصل فأخذها ، وأخرب قلعتها ،
فسار الملك طغرلبك سريعا من بغداد إلى الموصل فاستردها ، وهرب منه
البساسيري وقريش ; خوفا منه فتبعهما إلى
نصيبين وفارقه أخوه
إبراهيم وعصى عليه ، وهرب إلى
همذان وذلك بإشارة
البساسيري عليه فسار الملك
طغرلبك وراء أخيه ، وترك عساكره وراءه ، فتفرقوا ، وقل من لحقه منهم ، ورجعت زوجته
الخاتون ووزيره
الكندري إلى
بغداد ، ثم جاء الخبر بأن أخاه قد استظهر عليه ، وأن
طغرلبك محصور
بهمذان ، فانزعج الناس لذلك ، واضطربت
بغداد ، وأرجف الناس بأن
البساسيري عازم على قصد
بغداد ، وأنه قد اقترب من
الأنبار فقوي عزم
الكندري الوزير على المقام
ببغداد ، فأرادت
الخاتون أن تقبض عليه ، فتحول إلى الجانب الغربي ، ونهبت داره ، وقطع الجسر الذي بين الجانبين ، وركبت
الخاتون في جمهور الجيش ، وذهبت إلى
[ ص: 756 ] همذان لتنصر زوجها وسار
الكندري ومعه
أنوشروان بن تومان وأمه
الخاتون المذكورة ، ومعها بقية الجيش إلى بلاد
الأهواز ، وبقيت
بغداد ليس بها أحد من المقاتلة ، فعزم الخليفة على الترحل عن
بغداد إلى غيرها ، وليته فعل ، ثم أحب داره والمقام مع أهله ، فمكث فيها اغترارا ودعة ، ولما خلا البلد من المقاتلة قيل للناس : من أراد الخروج فليذهب حيث شاء . فانزعج الناس ، وبكى الرجال والنساء والأطفال ، وعبر كثير من الناس إلى الجانب الغربي ، وبلغت المعبرة دينارا ودينارين لعدم الجسر .
قال
nindex.php?page=showalam&ids=11890ابن الجوزي : وطار في تلك الليلة على دار الخليفة نحو عشر بومات مجتمعات يصحن صياحا مزعجا ، وقيل لرئيس الرؤساء : من المصلحة أن الخليفة يرتحل من
بغداد لعدم المقاتلة بها ، فلم يقبل .
وشرعوا في استخدام طائفة من العوام ، ودفع إليهم السلاح من دار المملكة ، فلما كان يوم الأحد الثامن من ذي القعدة من هذه السنة ، دخل
البساسيري إلى
بغداد ومعه الرايات البيض المصرية ، وعلى رأسه أعلام مكتوب عليها :
الإمام المستنصر بالله أبو تميم معد أمير المؤمنين ، فتلقاه
أهل الكرخ فتضرعوا إليه ، وسألوه أن يجتاز عندهم ، فدخل
الكرخ ، وخرج إلى
مشرعة الروايا ، فخيم بها ، والناس إذ ذاك في ضر ومجاعة شديدة ، ونزل
قريش بن بدران في نحو من مائتي فارس على مشرعة باب
البصرة ، وكان
البساسيري قد جمع العيارين وأطمعهم في نهب دار الخلافة ، ونهب
أهل الكرخ دور أهل السنة بباب
[ ص: 757 ] البصرة ونهبت دار
nindex.php?page=showalam&ids=14275قاضي القضاة الدامغاني ، وهلك أكثر السجلات والكتب الحكمية وأبيعت للعطارين ، ونهبت دور المتعلقين بالخليفة ، وأعادت
الروافض الأذان بحي على خير العمل ، وأذن به في سائر جوامع
بغداد في الجمعات والجماعات ، وخطب
ببغداد nindex.php?page=showalam&ids=15234للمستنصر العبيدي الذي يقال له :
الفاطمي ، على منابر
بغداد وضربت له السكة على الذهب والفضة ، وحوصرت دار الخلافة ، فحاجف
الوزير أبو القاسم بن المسلمة الملقب برئيس الرؤساء بمن معه من المستخدمين دونها ، فلم يفد ذلك شيئا ، فركب الخليفة بالسواد والبردة على كتفه ، وعلى رأسه اللواء ، وبيده سيف مصلت ، وحوله زمرة من الهاشميين ، والجواري حاسرات عن وجوههن ، ناشرات شعورهن ، معهن المصاحف على رءوس الرماح ، وبين يديه الخدم بالسيوف المسللة ، ثم إن الخليفة أخذ ذماما من أمير العرب
قريش بن بدران لنفسه وأهله ووزيره
ابن المسلمة فأمنه على ذلك كله ، وأنزله في خيمة ، فلامه
البساسيري على ذلك ، وقال : قد علمت ما كان وقع الاتفاق بيني وبينك من أنك لا تستبد برأي دوني ولا أنا دونك ، ومهما ملكنا فبيني وبينك . واستحضر
البساسيري أبا القاسم بن مسلمة فوبخه توبيخا ، ولامه لوما شديدا ، ثم ضربه ضربا مبرحا ، واعتقله مهانا عنده ، ونهبت العامة دار الخلافة ، فلا يحصى ما أخذوا منها من الجواهر والنفائس والديباج والأثاث والثياب ، وغير ذلك مما لا يوصف .
ثم اتفق رأي
البساسيري وقريش بن بدران على تسيير الخليفة من
بغداد وتسليمه إلى أمير حديثة عانة - وهو
nindex.php?page=showalam&ids=17161مهارش بن مجلي البدوي ، وهو من بني عم
قريش بن بدران ، وكان رجلا
[ ص: 758 ] صالحا - فلما بلغ ذلك الخليفة دخل على
قريش أن لا يخرج من
بغداد فلم يفد ذلك شيئا ، وسيره مع أصحابهما في هودج إلى حديثة عانة ، فكان عند
مهارش أميرها حولا كاملا ، وليس معه أحد من أهله ، فحكي عن
الخليفة القائم بأمر الله أنه قال : لما كنت بحديثة عانة قمت ليلة إلى الصلاة ، فوجدت في قلبي حلاوة المناجاة ، ثم دعوت الله تعالى بما سنح لي ، ثم قلت : اللهم أعدني إلى وطني ، واجمع بيني وبين أهلي وولدي ، ويسر اجتماعنا ، وأعد روض الأنس زاهرا ، وربع القرب عامرا ، فقد قل العزاء ، وبرح الخفاء ، قال : فسمعت قائلا على شاطئ
الفرات يقول : نعم نعم . فقلت : هذا رجل يخاطب آخر ، ثم أخذت في السؤال والابتهال ، فسمعت ذلك الصائح يقول : إلى الحول ، إلى الحول . فعلمت أنه هاتف أنطقه الله بما جرى الأمر عليه ، وكان كذلك ، خرج من داره في ذي القعدة من هذه السنة ، ورجع إليها في ذي القعدة من السنة المقبلة ، وقد قال
الخليفة القائم بأمر الله في مقامه
بالحديثة شعرا يذكر فيه حاله ، فمنه :
خابت ظنوني فيمن كنت آمله ولم يجل ذكر من واليت في خلدي تعلموا من صروف الدهر كلهم
فما أرى أحدا يحنو على أحد
ومن ذلك أيضا قوله :
ما لي من الأيام إلا موعد فمتى أرى ظفرا بذاك الموعد
يومي يمر وكلما قضيته عللت نفسي بالحديث إلى غد
أحيا بنفس تستريح إلى المنى وعلى مطامعها تروح وتغتدي
[ ص: 759 ] وأما
البساسيري وما اعتمده في
بغداد فإنه ركب يوم عيد الأضحى ، وألبس الخطباء والمؤمنين البياض ، وعليه هو وأصحابه كذلك ، وعلى رأسه الألوية المستنصرية والمطارد المصرية ، وخطب
nindex.php?page=showalam&ids=15234للمستنصر الفاطمي صاحب مصر ،
والروافض في غاية السرور ، والأذان في سائر بلاد
العراق بحي على خير العمل ، وانتقم
البساسيري من أعيان
أهل بغداد انتقاما عظيما ، وغرق خلقا ممن كان يعاديه ، وبسط على آخرين الأرزاق والعطايا .
وما كان يوم الاثنين لليلتين بقيتا من ذي الحجة أحضر إلى بين يديه
الوزير أبو القاسم ابن المسلمة الملقب برئيس الرؤساء ، وعليه جبة صوف ، وطرطور من لبد أحمر ، وفي رقبته مخنقة من جلود كالتعاويذ ، فأركب جملا وطيف به في البلد ، وخلفه من يصفعه بقطعة من جلد ، وحين اجتاز
بالكرخ نثروا عليه خلقان المداسات ، وبصقوا في وجهه ، ولعنوه وسبوه ، وأوقف بإزاء دار الخلافة ، وهو في ذلك يتلو قوله تعالى :
قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء بيدك الخير إنك على كل شيء قدير [ آل عمران : 26 ] ثم لما فرغ من التطواف به في محال البلد ، وأعيد إلى المعسكر ، فألبس جلد ثور بقرنيه ، وعلق بكلوب في شدقيه ، ورفع إلى الخشبة حيا ، فجعل يضطرب إلى آخر النهار ، فمات رحمه الله ، وكان آخر كلامه أن قال : الحمد لله الذي أحياني سعيدا وأماتني شهيدا .
وفي هذه السنة
وقع برد بأرض العراق أهلك كثيرا من الغلات ، وقتل بعض الفلاحين ، وزادت
دجلة زيادة عظيمة ، وزلزلت
بغداد في شوال قبل الفتنة بشهر
[ ص: 760 ] زلزالا شديدا ، فتهدمت دور كثيرة ، ووردت الأخبار أنها اتصلت من
بغداد إلى
همذان وواسط وعانة وتكريت ، وذكر أن الطواحين وقفت من شدة الزلازل .
وفي هذه السنة كثر النهب
ببغداد حتى كانت العمائم تخطف عن الرءوس ، حتى إن
الشيخ أبا نصر بن الصباغ خطفت عمامته وطيلسانه ، وهو ذاهب إلى الصلاة يوم الجمعة .
وفي أواخر هذه السنة خرج
السلطان طغرلبك من
همذان فقاتل أخاه ، وانتصر عليه ، ففرح الناس ، ولله الحمد والمنة فتباشر الناس بذلك ، وكثر سرورهم وفرحهم ، ولم يظهروا ذلك خوفا من
البساسيري ، واستنجد
طغرلبك بأولاد أخيه
داود - وكان قد مات - ومن معه من الجنود على أخيه
إبراهيم ينال ، فغلبوه وأسروه وذلك في أوائل سنة إحدى وخمسين ، واجتمعوا على عمهم
طغرلبك فسار بهم نحو
العراق ، فكان من أمرهم ما سيأتي ذكره في السنة الآتية إن شاء الله تعالى .