[ ص: 303 ] ثم دخلت
سنة تسع وعشرين وخمسمائة
فيها كانت وفاة
المسترشد وولاية
الراشد ، وكان سبب ذلك أنه كان بين السلطان
مسعود وبين الخليفة وقائع كثيرة ، فاقتضى الحال أن الخليفة أراد قطع الخطبة له من
بغداد ، فاتفق موت أخيه
طغرل بن محمد بن ملكشاه ، فسار إلى البلاد فملكها ، وقوي جانبه ثم شرع يجمع العساكر ليأخذ
بغداد من الخليفة ، فلما علم الخليفة بذلك انزعج واستعد لذلك ، وقفز جماعة من رءوس الأمراء إلى الخليفة خوفا على أنفسهم من سطوة الملك
مسعود ، وركب الخليفة من
بغداد في جحافل كثيرة فيهم القضاة ورءوس الدولة من جميع الأصناف ، فمشوا بين يديه أول منزله حتى وصل إلى السرادق وبعث بين يديه مقدمة ، وأرسل الملك
مسعود على مقدمته
nindex.php?page=showalam&ids=15862دبيس بن صدقة بن منصور ، الذي كان صاحب الحلة فجرت خطوب كبيرة وحروب كثيرة . وحاصل الأمر أن الجيشين التقيا في عاشر رمضان يوم الاثنين فاقتتلوا قتالا كثيرا ، ولم يقتل من الصفين سوى خمسة أنفس ، ثم حمل الخليفة على جيش الملك
مسعود فهزمهم . ثم تراجعوا فحملوا على جيش الخليفة ، فهزموهم وقتلوا منهم خلقا ، وأسروا الخليفة ، ونهبت أمواله وحواصله ، من جملة ذلك أربعة آلاف ألف دينار ، وغير ذلك من الثياب والخلع والأثاث والقماش والماعون ، فإنا لله وإنا إليه راجعون . وطار الخبر في الأقاليم ، وحين بلغ الخبر إلى
بغداد انزعج الناس
[ ص: 304 ] لذلك ، وزلزلوا زلزالا شديدا صورة ومعنى ، وجاءت العامة إلى المنابر فكسروها وامتنعوا من حضور الجماعات ، وخرج النساء في البلد حاسرات ينحن على الخليفة ، وما جرى عليه من الأسر وتأسى بأهل
بغداد في ذلك خلق كثير من أهل البلاد ، وتمت فتنة كبيرة وانتشرت في الأقاليم ، واستمر الحال على ذلك مستهل شهر ذي القعدة والشناعة في الأقاليم منتشرة ، فكتب الملك
سنجر إلى ابن أخيه يحذره غب ذلك ، ويبصره بما وقع من الأمر العظيم والخطب الجسيم ، ويأمره أن يعيد الخليفة إلى مستقر عزه ودار خلافته ، فامتثل الملك
مسعود ذلك وضرب للخليفة سرادق عظيم ، ونصب له فيه قبة عظيمة تحتها سرير هائل ، وألبس الخليفة السواد على عادته وأركب بعض ما كان يركبه من مراكبه . وجاء الملك
مسعود فقبل الأرض بين يديه ، وأمسك لجام الفرس وتمشى في خدمته ، والجيش كلهم مشاة حتى أجلس الخليفة على سريره ووقف الملك
مسعود بين يديه ، وخلع الخليفة عليه ، وجيء بدبيس مكتوفا ، وعن يمينه أميران وعن يساره أميران وسيف مسلول وشقة بيضاء ، فطرح بين يدي الخليفة ، ماذا يرسم فيه تطييبا لقلبه ؟! فأقبل السلطان يشفع في دبيس وهو ملقى يقول : العفو يا أمير المؤمنين أنا أخطأت والعفو عند المقدرة ، فأمر الخليفة بإطلاقه وهو يقول : لا تثريب عليكم ، فنهض قائما والتمس أن يقبل يد الخليفة فأذن له فقبلها وأمرها على صدره ، وسأل العفو عنه وعما كان منه ، واستقر الأمر على ما ذكرنا وطار هذا الخبر في الآفاق وفرح الناس بذلك فلما كان مستهل ذي القعدة جاءت الرسل من جهة
[ ص: 305 ] الملك
سنجر إلى ابن أخيه يستحثه على الإحسان إلى الخليفة ، وأن يبادر إلى سرعة رده إلى وطنه ، وأرسل مع الرسل جيشا ليكونوا في خدمة الخليفة إلى
بغداد فصحب الجيش عشرة من
الباطنية ، فقيل : من حيث لا يشعرون ، وقيل : بل كانوا مجهزين ، فالله أعلم . إلا أنهم حالة وصولهم إلى هنالك حملوا على الخليفة في خيمته ، فقتلوه فيها وقطعوه قطعا ، فلم يلحق الناس منه إلا الرسوم ، وقتلوا معه جماعة من أصحابه منهم
عبد الله بن سكينة فأخذ أولئك الرهط فأحرقوا قبحهم الله ، وسارت بذلك الركبان في البلدان فما من أهل بلدة إلا وهم أشد حزنا على الخليفة المسترشد من الأخرى لا سيما
أهل بغداد وخرجت النساء في الطرقات ينحن عليه ويندبنه ، وقد ذكر
nindex.php?page=showalam&ids=11890أبو الفرج ابن الجوزي ما كن يقلنه من النياحة على الخليفة رحمه الله ، وكان مقتله على باب
مراغة في يوم الخميس سابع عشر ذي القعدة فحمل إلى
بغداد ولما استقر خبر موته
ببغداد عمل له العزاء ثلاثة أيام بعدما بويع لولده
الراشد .
ذكر شيء من ترجمة
المسترشد رحمه الله
كان
المسترشد شجاعا مقداما بعيد الهمة ، فصيحا بليغا عذب الكلام حسن الإيراد مليح الخط ، كثير العبادة ، محببا إلى العامة والخاصة ، وهو آخر خليفة رئي خطيبا ، قتل وعمره ثلاث وأربعون سنة ، وثلاثة أشهر ، وكانت مدة
[ ص: 306 ] خلافته سبع عشرة سنة وستة أشهر وعشرين يوما ، وكانت أمه أم ولد من
الأتراك .