[ ص: 544 ] ثم دخلت
سنة ست وسبعين وخمسمائة
فيها
هادن السلطان صلاح الدين الفرنج ، وسار إلى بلاد
الروم فأصلح بين ملوكها ، من
بني أرتق ، وكر على بلاد
الأرمن فأهان ملكها ، وفتح بعض حصونها ، وأخذ منه غنائم كثيرة جدا ، من أواني الذهب والفضة ; لأنه كان قد غدر بقوم من
التركمان أووا إلى بلاده ، ثم صالحه على مال يحمله إليه وأسارى يطلقهم من أسره ، وآخرين يستنقذهم من أيدي الفرنج ، ثم عاد السلطان مؤيدا منصورا فدخل
حماة في أواخر جمادى الآخرة ، وامتدحه الشعراء على ذلك .
ومات صاحب
الموصل سيف الدين غازي بن مودود بن زنكي ، وكان شابا حسنا ، مليح الشكل ، تام القامة ، مدور اللحية ، مكث في الملك عشر سنين ، ومات عن ثلاثين سنة ، وكان عفيفا في نفسه ، مهيبا وقورا ، لا يلتفت إذا ركب ولا إذا جلس ، غيورا لا يدع أحدا من الخدام يدخل على النساء ، وكان لا يقدم على سفك الدماء ، وينسب إلى شيء من البخل ، سامحه الله ، وكانت وفاته في ثالث صفر ، وكان قد عزم على أن يجعل الملك من بعده لولده
عز الدين سنجر شاه ، فلم يوافقه الأمراء خوفا من
صلاح الدين لصغر سنه ، فاتفقوا كلهم على أخيه ، فأجلس مكانه في المملكة أخوه
عز الدين مسعود ، وجعل
مجاهد الدين قايماز نائبه ومدبر مملكته ، وجاءت رسل الخليفة يلتمسون من
صلاح الدين [ ص: 545 ] أن يبقي
سروج والرها والرقة ، وحران والخابور ونصيبين في يده ، كما كانت في يد أخيه ، فامتنع السلطان من ذلك ، وقال : هذه البلاد هي حفظ ثغور المسلمين ، وإنما كنت تركتها في يده ليساعدنا على غزو الفرنج ، فلم يكن يفعل ذلك ، وكتب إلى الخليفة يعرفه أن المصلحة في كونها بيده .
وفاة تورانشاه أخي السلطان
وفيها توفي أخو السلطان الأكبر
الملك المعظم شمس الدولة تورانشاه بن أيوب ، الذي افتتح بلاد
اليمن عن أمر أخيه
صلاح الدين ، فمكث فيها حينا واقتنى منها أموالا جزيلة ، ثم استناب فيها ، وأقبل نحو أخيه إلى
الشام شوقا إليه ، وقد كتب إليه من أثناء الطريق شعرا عمله له شاعره
ابن المنجم ، وكانوا قد وصلوا إلى
تيماء فهل لأخي بل مالكي علم أنني إليه وإن طال التردد راجع وإني بيوم واحد من لقائه
لملكي على عظم المزية بائع ولم يبق إلا دون عشرين ليلة
وتجني المنى أبصارنا والمسامع لدى ملك تعنو الملوك إذا بدا
وتخشع إعظاما له وهو خاشع [ ص: 546 ] كتبت وأشواقي إليك ببعضها
تعلمت النوح الحمام السواجع وما الملك إلا راحة أنت زندها
تضم على الدنيا ونحن الأصابع
وكان قدومه إليه في سنة إحدى وسبعين ، فشهد معه مواقف مشهودة وغزوات محمودة ، واستنابه على
دمشق مدة ، ثم سار إلى
مصر فاستنابه على
الإسكندرية فلم توافقه ، وكان يعتريه القولنج فمات بها ، رحمه الله تعالى ، في هذه السنة ، ودفن بقصر الإمارة فيها ، ثم نقلته أخته
ست الشام بنت أيوب فدفنته بتربتها التي بالشامية البرانية ، فقبره القبلي ، والوسطاني قبر زوجها وابن عمها
nindex.php?page=showalam&ids=16183ناصر الدين محمد بن أسد الدين شيركوه ، صاحب
حمص والرحبة ، والمؤخر قبرها ، رحمهما الله وأجزل ثوابها . والتربة الحسامية منسوبة إلى ولدها
حسام الدين عمر بن لاجين ، وهي إلى جانب المدرسة من غربها ، وقد كان
الملك تورانشاه كريما جوادا شجاعا باسلا عظيم الهيبة كبير النفس ، واسع الصدر ، قال فيه
ابن سعدان الحلبي :
هو الملك إن تسمع بكسرى وقيصر فإنهما في الجود والبأس عبداه
وما حاتم ممن يقاس بمثله فخذ ما رأيناه ودع ما رويناه
ولذ بذراه مستجيرا فإنه يجيرك من جور الزمان وعدواه
ولا تتحمل للسحائب منة إذا هطلت جودا سحائب جدواه
ويرسل كفيه بما اشتق منهما فلليمن يمناه ولليسر يسراه
ولما بلغ خبر موته إلى أخيه
السلطان صلاح الدين وهو مخيم
[ ص: 547 ] بظاهر
حمص حزن عليه حزنا شديدا ، وجعل ينشد باب المراثي من الحماسة ، وكانت محفوظة .
وفي رجب قدمت رسل
الخليفة الناصر وخلعه وهدايا إلى
الملك الناصر صلاح الدين ، فلبس السلطان خلعة الخليفة
بدمشق ، وزينت له البلد ، وكان يوما مشهودا .
وفي رجب أيضا منها سار السلطان من
الشام إلى الديار المصرية ; لينظر في أحوالها ، ويصوم بها رمضان ، ومن عزمه أن يحج عامه ذلك إلى بيت الله الحرام ، واستناب على
الشام ابن أخيه
عز الدين فروخشاه بن شاهنشاه بن أيوب ، قال
العماد الكاتب : وكان عزيز المثل غزير الفضل . فكتب
القاضي الفاضل عن
الملك العادل أبي بكر نائب
مصر إلى
أهل اليمن والبقيع ومكة يعلمهم بعزم السلطان على الحج في هذا العام ; ليتأهبوا للملك ويهتموا به ، واستصحب السلطان معه
صدر الدين أبا القاسم عبد الرحيم شيخ الشيوخ
ببغداد ، الذي قدم في الرسلية من جهة الخليفة ; ليكون في خدمته إلى الديار المصرية ، وفي صحبته إلى
الحجاز الشريف ، فدخل السلطان ديار
مصر ، وتلقاه الجيش وكان يوما مشهودا ، وأما
صدر الدين فإنه لم يقم بها إلا قليلا حتى توجه إلى
الحجاز الشريف في البحر ، فأدرك الصيام بالمسجد الحرام .
وفيها
سار قراقوش التقوي إلى بلاد المغرب فحاصر قابس وقلاعا كثيرة حولها ، واستحوذ على أكثرها ، فاتفق له أنه أسر من بعض الحصون غلاما أمرد
[ ص: 548 ] فأراد قتله ، فقال له أهل الحصن : لا تقتله وخذ لك عشرة آلاف دينار ، فأبى فوصلوه إلى مائة ألف دينار فأبى إلا قتله ، فقتله ، فلما قتله نزل صاحب الحصن وهو شيخ كبير ومعه مفاتيح ذلك الحصن ، فقال : خذ هذه فإني شيخ كبير ، وإنما كنت أحفظه من أجل هذا الصبي الذي قتلته ، ولي أولاد أخ أكره أن يملكوه بعدي . فأقره فيه ، وأخذ منه أموالا كثيرة . والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب .