[ ص: 703 ] ثم دخلت
سنة سبع وتسعين وخمسمائة
فيها
اشتد الغلاء بأرض مصر جدا ، فهلك خلق كثير جدا من الفقراء والأغنياء ، ثم أعقبه فناء عظيم ، حتى حكى الشيخ
أبو شامة في " الذيل " أن
العادل كفن من ماله في مدة شهر من هذه السنة نحوا من مائتي ألف وعشرين ألف ميت ، وأكلت الكلاب والميتات في هذه السنة
بمصر ، وأكل من الصغار والأطفال خلق كثير ، يشويه والداه ويأكلانه ، وكثر هذا في الناس حتى صار لا ينكر بينهم ، ثم صاروا يحتالون على بعضهم بعضا فيأكلون من يقدرون عليه ، ومن غلب من قوي ضعيفا ذبحه وأكله .
وكان الرجل يضيف صاحبه فإذا خلا به ذبحه وأكله ، ووجد عند بعضهم أربعمائة رأس .
وهلك كثير من الأطباء الذين يستدعون إلى المرضى ، فيذبحون ويؤكلون ; وقد استدعى رجل طبيبا فخاف الطبيب وذهب معه على وجل ، فجعل الرجل يتصدق على من وجده في الطريق ويذكر ويسبح ، ويكثر من ذلك ، فارتاب به الطبيب وتخيل ، ومع هذا حمله الطمع على الاستمرار معه ، فلما وصل إلى الدار إذا هي خربة فارتاب أيضا ، فخرج رجل من الدار ، فقال لصاحبه : ومع هذا البطء جئت لنا بصيد . فلما سمعها الطبيب هرب ، فخرجا خلفه سراعا فما
[ ص: 704 ] خلص إلا بعد جهد جهيد .
وفيها وقع وباء شديد ببلاد
عنزة بين
الحجاز واليمن ، وكانوا يسكنون في عشرين قرية ، فبادت منها ثماني عشرة قرية ، ولم يبق فيها ديار ولا نافخ نار ، وبقيت أنعامهم وأموالهم لا قاني لها ، ولا يستطيع أحد أن يسكن تلك القرى ولا يدخلها ، بل كان من اقترب إلى شيء من هذه القرى هلك من ساعته ، فسبحان من بيده ملكوت كل شيء وإليه ترجعون ، أما القريتان الباقيتان فإنهما لم يمت منهما أحد ولا عندهم شعور بما جرى على من حولهم ؛ بل هم على ما كانوا عليه لم يفقد منهم أحد .
واتفق
باليمن في هذه السنة كائنة غريبة جدا ، وهي أن رجلا يقال له :
عبد الله بن حمزة العلوي كان قد تغلب على كثير من بلاد
اليمن ، وجمع نحوا من اثني عشر ألف فارس ومن الرجالة جمعا كثيرا ، وخافه ملك
اليمن المعز بن إسماعيل بن سيف الإسلام بن طغتكين بن أيوب ، وغلب على ظنه زوال ملكه على يدي هذا المتغلب ، وأيقن بالهلكة لضعفه عن مقاومته ، واختلاف أمرائه معه في المشورة ، فأرسل الله صاعقة ، فنزلت عليهم ، فلم يبق منهم أحد فاضطرب الجيش فيما بينهم ، وأقبل المعز بعسكره فقتل منهم ستة آلاف قتيل ، واستقر في ملكه آمنا .
وفيها تكاتب الأخوان ;
الأفضل من
صرخد والظاهر من
حلب على أن يجتمعا على حصار
دمشق وينزعاها من
المعظم بن العادل ، وتكون
للأفضل ، ثم يسيرا إلى الديار المصرية فيأخذاها من
العادل وابنه
الكامل اللذين نقضا العهد
[ ص: 705 ] وأبطلا خطبة
المنصور بن عبد العزيز ، ونكثا المواثيق ، فإذا استقر لهما ملك
مصر كانت
للأفضل ، وتصير
دمشق مضافة إلى
الظاهر مع
حلب فلما بلغ
العادل ما تمالآ عليه ، أرسل جيشا مددا لابنه المعظم
بدمشق ، فوصلوا قبل وصول
الظاهر وأخيه
الأفضل ، وكان وصولهما إليها في ذي القعدة من ناحية
بعلبك فنزلا بجيشهما في مسجد القدم ، واشتد الحصار للبلد ، وتسلق كثير من الجيش من ناحية خان
ابن المقدم ، ولم يبق إلا فتح البلد ، لولا هجوم الليل . ثم إن
الظاهر بدا له فيما كان عاهد أخاه عليه من كون
دمشق تكون
للأفضل ، فرأى أن تكون له أولا ، ثم إذا فتحت
مصر يسلمها
للأفضل ، فأرسل إليه في ذلك فلم يقبل
الأفضل ذلك ، واختلفا وتفرقت كلمتهما ، وتنازعا على الملك
بدمشق ، فتفرقت الأمراء عنهما ، وكوتب
العادل في الصلح ، فأرسل يجيب إلى ما سألا من إقطاعهما شيئا من بلاد
الجزيرة وبعض معاملة
المعرة . وتفرقت العساكر عن البلد في محرم سنة ثمان وتسعين ، وسار كل من الملكين إلى تسلم البلاد التي أقطعها ، وجرت خطوب يطول شرحها ، وقد كان
الظاهر وأخوه كتبا إلى صاحب
الموصل نور الدين أرسلان الأتابكي أن يحاصر مدن
الجزيرة التي مع عمهما
العادل ، فركب في جيشه وأرسل إلى ابن عمه
قطب الدين صاحب
سنجار ، واجتمع معهما صاحب
ماردين الذي كان
العادل قد حاصره وضيق عليه مدة طويلة ، فقصدت العساكر
حران وبها
الفائز بن العادل ، فحاصروه مدة ، ثم لما بلغهم وقوع الصلح بين
العادل وابني أخيه
الظاهر والأفضل عدلوا إلى المصالحة أيضا ، وذلك بعد طلب
الفائز ذلك منهم ، وتمهدت الأمور واستقرت على ما كانت عليه ؛ ولله الحمد والمنة .
وفي هذه السنة ملك
غياث الدين وأخوه
شهاب الدين الغوريان جميع ما
[ ص: 706 ] كان يملكه
خوارزم شاه من البلدان والحواصل والأموال ، وجرت لهم خطوب طويلة جدا . وفيها كانت زلزلة عظيمة ، ابتدأت من بلاد
الشام إلى
الجزيرة وبلاد الروم
والعراق ، وكان جمهورها وعظمها
بالشام ; تهدمت منها دور كثيرة ، وخسف بقرية من أرض
بصرى ، وأما السواحل فهلك فيها شيء كثير ، وخربت محال كثيرة من
طرابلس وصور وعكا ونابلس ، ولم يبق
بنابلس سوى حارة السامرة ومات بها وبقراها ثلاثون ألفا تحت الردم ، وسقط طائفة كثيرة من المنارة الشرقية بجامع
دمشق وأربع عشرة شرفة منه ، وغالب الكلاسة والمارستان النوري ، وخرج الناس إلى الميادين يستغيثون ، وسقط غالب قلعة
بعلبك مع وثاقة بنائها ، وانفرق البحر إلى
قبرس وحذف بالمراكب إلى ساحله ، وتعدى إلى ناحية الشرق ، فسقط بسببها دور كثيرة ، ومات أمم لا يحصون حتى قال صاحب " مرآة الزمان " : إنه مات في هذه السنة بسبب الزلزلة نحو من ألف ألف ومائة ألف إنسان . نقله في " ذيل الروضتين " عنه .