صفحة جزء
[ ص: 530 ] فصل في بناء مسجده الشريف في مدة مقامه بدار أبي أيوب رضي الله عنه

وقد اختلف في مدة مقامه بها; فقال الواقدي : سبعة أشهر . وقال غيره : أقل من شهر . والله أعلم .

قال البخاري : حدثنا إسحاق بن منصور ، أخبرنا عبد الصمد ، قال : سمعت أبي يحدث : حدثنا أبو التياح يزيد بن حميد الضبعي ، حدثنا أنس بن مالك ، قال : لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة ، نزل في علو المدينة في حي يقال لهم : بنو عمرو بن عوف ، فأقام فيهم أربع عشرة ليلة ، ثم أرسل إلى ملأ بني النجار ، فجاءوا متقلدي سيوفهم . قال : وكأني أنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على راحلته ، وأبو بكر ردفه ، وملأ بني النجار حوله ، حتى ألقى بفناء أبي أيوب . قال : فكان يصلي حيث أدركته الصلاة ، ويصلي في مرابض [ ص: 531 ] الغنم ، قال : ثم أمر ببناء المسجد ، فأرسل إلى ملأ بني النجار فجاءوا ، فقال : " يا بني النجار ، ثامنوني بحائطكم هذا " . فقالوا : لا والله لا نطلب ثمنه إلا إلى الله عز وجل . قال : فكان فيه ما أقول لكم ، كانت فيه قبور المشركين ، وكانت فيه خرب ، وكان فيه نخل ، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقبور المشركين فنبشت ، وبالخرب فسويت ، وبالنخل فقطع . قال : فصفوا النخل قبلة المسجد ، وجعلوا عضادتيه حجارة . قال : فجعلوا ينقلون ذلك الصخر ، وهم يرتجزون ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم معهم يقول :


" اللهم إنه لا خير إلا خير الآخره فانصر الأنصار والمهاجره "

وقد رواه البخاري في مواضع أخر ، ومسلم من حديث أبي عبد الصمد عبد الوارث بن سعيد ، وقد تقدم في " صحيح البخاري " عن الزهري ، عن عروة ، أن المسجد كان مربدا - وهو بيدر التمر - ليتيمين كانا في حجر أسعد بن زرارة وهما سهل وسهيل ، فساومهما فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقالا : بل نهبه لك يا رسول الله . فأبى حتى ابتاعه منهما وبناه مسجدا . قال : وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو ينقل معهم التراب ، يقول :

[ ص: 532 ]

" هذا الحمال لا حمال خيبر     هذا أبر ربنا وأطهر "

ويقول :


" اللهم إن الأجر أجر الآخره     فارحم الأنصار والمهاجره "

وذكر موسى بن عقبة أن أسعد بن زرارة عوضهما منه نخلا له في بني بياضة ، قال : وقيل : ابتاعه منهما رسول الله صلى الله عليه وسلم .

قلت : وذكر محمد بن إسحاق ، أن المربد كان لغلامين يتيمين في حجر معاذ ابن عفراء ، وهما سهل وسهيل ابنا عمرو . فالله أعلم .

وروى البيهقي من طريق أبي بكر بن أبي الدنيا ، حدثنا الحسن بن حماد الضبي ، ثنا عبد الرحيم بن سليمان ، عن إسماعيل بن مسلم ، عن الحسن ، قال : لما بنى رسول الله صلى الله عليه وسلم المسجد ، أعانه عليه أصحابه ، وهو معهم يتناول اللبن ، حتى اغبر صدره فقال : " ابنوه عريشا كعريش موسى " . فقلت للحسن : ما عريش موسى ؟ قال : " إذا رفع يديه بلغ العريش " . يعني السقف . وهذا مرسل .

وروى من حديث حماد بن سلمة ، عن أبي سنان ، عن يعلى بن شداد [ ص: 533 ] بن أوس ، عن عبادة ، أن الأنصار جمعوا مالا ، فأتوا به النبي صلى الله عليه وسلم ، فقالوا : يا رسول الله ، ابن هذا المسجد وزينه ، إلى متى نصلي تحت هذا الجريد ؟ فقال : " ما بي رغبة عن أخي موسى ، عريش كعريش موسى " . وهذا حديث غريب من هذا الوجه .

وقال أبو داود : حدثنا محمد بن حاتم ، حدثنا عبيد الله بن موسى ، عن شيبان ، عن فراس ، عن عطية العوفي ، عن ابن عمر ، أن مسجد النبي صلى الله عليه وسلم كانت سواريه على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم من جذوع النخل ، أعلاه مظلل بجريد النخل ، ثم إنها نخرت في خلافة أبي بكر ، فبناها بجذوع وبجريد النخل ، ثم إنها نخرت في خلافة عثمان ، فبناها بالآجر ، فما زالت ثابتة حتى الآن وهذا غريب .

وقد قال أبو داود أيضا : حدثنا مجاهد بن موسى ، حدثني يعقوب بن إبراهيم ، حدثني أبي ، عن صالح ، ثنا نافع ، عن ابن عمر ، أخبره أن المسجد كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم مبنيا باللبن ، وسقفه الجريد ، وعمده خشب النخل ، فلم يزد فيه أبو بكر شيئا ، وزاد فيه عمر ، وبناه على بنائه في عهد النبي صلى الله عليه وسلم باللبن والجريد ، وأعاد عمده خشبا ، وغيره عثمان رضي الله عنه ، [ ص: 534 ] وزاد فيه زيادة كثيرة ، وبنى جداره بالحجارة المنقوشة والقصة ، وجعل عمده من حجارة منقوشة ، وسقفه بالساج . وهكذا رواه البخاري عن علي بن المديني ، عن يعقوب بن إبراهيم به .

قلت : زاده عثمان بن عفان رضي الله عنه متأولا قوله صلى الله عليه وسلم : " من بنى لله مسجدا ولو كمفحص قطاة بنى الله له بيتا في الجنة " . ووافقه الصحابة الموجودون على ذلك ، ولم يغيروه بعده ، فيستدل بذلك على الراجح من قولي العلماء أن حكم الزيادة حكم المزيد ، فتدخل الزيادة في حكم سائر المسجد من تضعيف الصلاة فيه ، وشد الرحال إليه ، وقد زيد في زمان الوليد بن عبد الملك باني جامع دمشق ، زاده له بأمره عمر بن عبد العزيز حين كان نائبه على المدينة ، وأدخل الحجرة النبوية فيه ، كما سيأتي بيانه في وقته ، ثم زيد زيادة كثيرة فيما بعد ، وزيد من جهة القبلة ، حتى صارت الروضة والمنبر بعد الصفوف المقدمة ، كما هو المشاهد اليوم .

قال ابن إسحاق : ونزل رسول الله على أبي أيوب ، حتى بنى مسجده ومساكنه ، وعمل فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم; ليرغب المسلمين في العمل فيه ، فعمل فيه المهاجرون والأنصار ، ودأبوا فيه ، فقال قائل من المسلمين :

[ ص: 535 ]

لئن قعدنا والنبي يعمل     لذاك منا العمل المضلل

وارتجز المسلمون وهم يبنونه يقولون :


لا عيش إلا عيش الآخره     اللهم ارحم الأنصار والمهاجره

فيقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا عيش إلا عيش الآخرة ، اللهم ارحم المهاجرين والأنصار " . قال فيدخل عمار بن ياسر ، وقد أثقلوه باللبن فقال : يا رسول الله ، قتلوني ، يحملون علي ما لا يحملون . قالت أم سلمة : فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينفض وفرته بيده ، وكان رجلا جعدا ، وهو يقول : " ويح ابن سمية ، ليسوا بالذين يقتلونك ، إنما تقتلك الفئة الباغية " . وهذا منقطع من هذا الوجه ، بل هو معضل بين محمد بن إسحاق ، وبين أم سلمة ، وقد وصله مسلم في " صحيحه " من حديث شعبة ، عن خالد الحذاء ، عن سعيد والحسن يعني ابني أبي الحسن البصري ، عن أمهما خيرة ، مولاة أم سلمة ، عن أم سلمة ، قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " تقتل عمارا الفئة الباغية " .

ورواه من حديث ابن علية ، عن ابن عون ، عن الحسن ، عن أمه ، عن أم سلمة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعمار وهو ينقل الحجارة : " ويح لك يا ابن سمية تقتلك الفئة الباغية " .

وقال عبد الرزاق : أخبرنا معمر ، عن الحسن ، يحدث عن أمه ، عن أم [ ص: 536 ] سلمة ، قالت : لما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه يبنون المسجد ، جعل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يحمل كل واحد لبنة لبنة ، وعمار يحمل لبنتين; لبنة عنه ، ولبنة عن النبي صلى الله عليه وسلم ، فمسح ظهره ، وقال : " ابن سمية ، للناس أجر ، ولك أجران ، وآخر زادك شربة من لبن ، وتقتلك الفئة الباغية " . وهذا إسناد على شرط " الصحيحين " .

وقد أورد البيهقي وغيره ، من طريق جماعة ، عن خالد الحذاء ، عن عكرمة ، عن أبي سعيد الخدري ، قال : كنا نحمل في بناء المسجد لبنة لبنة ، وعمار يحمل لبنتين لبنتين ، فرآه النبي صلى الله عليه وسلم ، فجعل ينفض التراب عنه ويقول : " ويح عمار ، تقتله الفئة الباغية ، يدعوهم إلى الجنة ، ويدعونه إلى النار " . قال : يقول عمار : أعوذ بالله من الفتن . لكن روى هذا الحديث الإمام البخاري ، عن مسدد ، عن عبد العزيز بن المختار ، عن خالد الحذاء ، وعن إبراهيم بن موسى ، عن عبد الوهاب الثقفي ، عن خالد الحذاء به ، إلا أنه لم يذكر قوله : " تقتلك الفئة الباغية " .

[ ص: 537 ] قال البيهقي : وكأنه إنما تركها لما رواه مسلم ، من طريق عن أبي نضرة ، عن أبي سعيد ، قال : أخبرني من هو خير مني ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال لعمار حين جعل يحفر الخندق ، جعل يمسح رأسه ، ويقول : " بؤس ابن سمية ، تقتله فئة باغية " .

وقد رواه مسلم أيضا ، من حديث شعبة ، عن أبي مسلمة ، عن أبي نضرة ، عن أبي سعيد ، قال : حدثني من هو خير مني أبو قتادة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعمار بن ياسر : " بؤسا لك يا ابن سمية ، تقتلك الفئة الباغية " .

وقال أبو داود الطيالسي : حدثنا وهيب ، عن داود بن أبي هند ، عن أبي نضرة ، عن أبي سعيد ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما حفر الخندق ، كان الناس يحملون لبنة لبنة ، وعمار ناقه من وجع كان به ، فجعل يحمل لبنتين لبنتين ، قال أبو سعيد : فحدثني بعض أصحابي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان ينفض التراب عن رأسه ، ويقول : " ويحك ابن سمية ، تقتلك الفئة الباغية " . قال البيهقي : فقد فرق بين ما سمعه بنفسه ، وما سمعه من أصحابه . قال : [ ص: 538 ] ويشبه أن يكون قوله : الخندق . وهما أو أنه قال له ذلك في بناء المسجد ، وفي حفر الخندق . والله أعلم .

قلت : حمل اللبن في حفر الخندق لا معنى له ، والظاهر أنه اشتبه على الناقل . والله أعلم . وهذا الحديث من دلائل النبوة حيث أخبر صلوات الله وسلامه عليه عن عمار أنه تقتله الفئة الباغية ، وقد قتله أهل الشام في وقعة صفين ، وعمار مع علي وأهل العراق كما سيأتي بيانه وتفصيله في موضعه . وقد كان علي أحق بالأمر من معاوية ، ولا يلزم من تسمية أصحاب معاوية بغاة تكفيرهم ، كما يحاوله جهلة الفرقة الضالة من الشيعة وغيرهم; لأنهم ، وإن كانوا بغاة في نفس الأمر ، فإنهم كانوا مجتهدين فيما تعاطوه من القتال ، وليس كل مجتهد مصيبا ، بل المصيب له أجران ، والمخطئ له أجر ، ومن زاد في هذا الحديث بعد قوله : " تقتلك الفئة الباغية " : لا أنالها الله شفاعتي يوم القيامة ، فقد افترى في هذه الزيادة على رسول الله صلى الله عليه وسلم; فإنه لم يقلها إذ لم تنقل من طريق تقبل . والله أعلم . وأما قوله : " يدعوهم إلى الجنة ، ويدعونه إلى النار " فإن عمارا وأصحابه يدعون أهل الشام إلى الألفة واجتماع الكلمة ، وأهل الشام يريدون أن يستأثروا بالأمر دون من هو أحق به ، وأن يكون الناس أوزاعا على كل قطر إمام برأسه ، وهذا يؤدي إلى افتراق الكلمة ، واختلاف الأمة ، فهو لازم مذهبهم وناشئ عن مسلكهم ، وإن كانوا لا يقصدونه . والله أعلم . وسيأتي تقرير هذه المباحث إذا انتهينا إلى وقعة صفين من كتابنا [ ص: 539 ] هذا ، بحول الله وقوته ، وحسن تأييده وتوفيقه .

والمقصود هاهنا إنما هو قصة بناء المسجد النبوي ، على بانيه أفضل الصلاة والتسليم .

وقد قال الحافظ البيهقي في " الدلائل " : حدثنا أبو عبد الله الحافظ إملاء ، ثنا أبو بكر بن إسحاق ، أخبرنا عبيد بن شريك ، ثنا نعيم بن حماد ، ثنا عبد الله بن المبارك ، أخبرنا حشرج بن نباتة ، عن سعيد بن جمهان ، عن سفينة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : جاء أبو بكر بحجر فوضعه ، ثم جاء عمر بحجر فوضعه ، ثم جاء عثمان بحجر فوضعه ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " هؤلاء ولاة الأمر بعدي " .

ثم رواه من حديث يحيى بن عبد الحميد الحماني ، عن حشرج ، عن سعيد ، عن سفينة ، قال : لما بنى رسول الله صلى الله عليه وسلم المسجد ، وضع حجرا ، ثم قال : ليضع أبو بكر حجرا إلى جنب حجري ، ثم ليضع عمر حجره إلى جنب حجر أبي بكر ، ثم ليضع عثمان حجره إلى جنب حجر عمر . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " هؤلاء الخلفاء من بعدي " . وهذا الحديث بهذا السياق غريب جدا .

والمعروف ما رواه الإمام أحمد ، عن أبي النضر ، عن حشرج بن نباتة [ ص: 540 ] العبسي ، وعن بهز وزيد بن الحباب وعبد الصمد ، عن حماد بن سلمة ، كلاهما عن سعيد بن جمهان ، عن سفينة ، قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " الخلافة ثلاثون عاما ، ثم يكون من بعد ذلك الملك " . ثم قال سفينة : أمسك ، خلافة أبي بكر سنتين ، وخلافة عمر عشر سنين ، وخلافة عثمان اثنتي عشرة سنة ، وخلافة علي ست سنين . هذا لفظ أحمد . ورواه أبو داود ، والترمذي ، والنسائي ، من طرق عن سعيد بن جمهان . وقال الترمذي : حسن لا نعرفه إلا من حديثه . ولفظه : " الخلافة بعدي ثلاثون سنة ، ثم يكون ملكا عضوضا " . وذكر بقيته .

قلت : ولم يكن في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم أول ما بني منبر يخطب الناس عليه ، بل كان النبي صلى الله عليه وسلم يخطب الناس ، وهو مستند إلى جذع عند مصلاه في الحائط القبلي ، فلما اتخذ له عليه السلام المنبر ، كما سيأتي بيانه في موضعه ، وعدل إليه ليخطب عليه ، وجاوز ذلك الجذع ، خار ذلك الجذع وحن حنين النوق العشار; لما كان يسمع من خطب الرسول عليه السلام عنده ، فرجع إليه النبي صلى الله عليه وسلم فاحتضنه حتى سكن ، كما يسكن المولود الذي يسكت ، كما سيأتي تفصيل ذلك من طرق ، عن سهل بن سعد [ ص: 541 ] الساعدي ، وجابر ، وعبد الله بن عمر ، وعبد الله بن عباس ، وأنس بن مالك ، وأم سلمة رضي الله عنهم ، وما أحسن ما قال الحسن البصري بعدما روى هذا الحديث ، عن أنس بن مالك : يا معشر المسلمين ، الخشبة تحن إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم شوقا إليه ، أو ليس الرجال الذين يرجون لقاءه أحق أن يشتاقوا إليه؟!

التالي السابق


الخدمات العلمية