سلطنة الملك منصور لاجين السلحدار
وذلك أنه لما استاق الخزانة ، وذهب بالجيوش إلى
الديار المصرية دخلها في أبهة عظيمة ، وقد اتفق مع جمهور الأمراء الكبار ، وبايعوه وملكوه عليهم ، وجلس على سرير الملك يوم الجمعة عاشر صفر ، ودقت
بمصر البشائر ، وزينت البلد ، وخطب له على المنابر وبالقدس والخليل ، ولقب
بالملك المنصور ، وكذلك
بالكرك ونابلس وصفد ، وذهبت إليه طائفة من أمراء
دمشق ، وقدمت الجريدة من جهة الرحبة صحبة الأمير
سيف الدين كجكن ، فلم يدخلوا البلد بل نزلوا
[ ص: 695 ] بميدان الحصى ، وأظهروا مخالفة العادل وطاعة
المنصور لاجين بمصر ، وركب إليه الأمراء طائفة بعد طائفة ، وفوجا بعد فوج ، فضعف أمر العادل جدا . فلما رأى انحلال أمره قال للأمراء : هو خشداشي ، وأنا وهو شيء واحد ، وأنا له سامع مطيع ، وأنا أجلس في أي مكان من القلعة أراد ، حتى تكاتبوه وتنظروا ما يقول . وجاءت البريدية بالمكاتبات بأمر الاحتياط على القلعة وعلى الملك العادل ، وبقي الناس في هرج وأقوال مختلفة ، وأبواب القلعة مغلقة ، وأبواب المدينة سوى باب النصر إلا الخوخة ، والعامة حول القلعة قد ازدحموا حتى سقطت طائفة منهم في الخندق ، فمات بعضهم ، وأمسى الناس عشية السبت ، وقد أعلن باسم
الملك المنصور لاجين ، ودقت البشائر بذلك بعد العصر ، ودعا له المؤذنون في سحر ليلة الأحد بجامع
دمشق ، وتلوا قوله تعالى :
قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء [ آل عمران : 26 ] .
وأصبح الناس يوم الأحد ، فاجتمع القضاة والأمراء ، وفيهم
غرلو العادلي بدار السعادة ، فحلفوا
للمنصور لاجين ، ونودي بذلك في البلد ، وأن يفتح الناس دكاكينهم ، واختفى الصاحب
شهاب الدين وأخوه
زين الدين المحتسب ، فعمل الوالي
ابن النشابي حسبة البلد ، ثم ظهر
زين الدين ، فباشرها على عادته . وكذلك ظهر أخوه
شهاب الدين ، وسافر الأمير
سيف الدين غرلو وسيف الدين جاغان إلى
الديار المصرية يعلمان السلطان بوقوع التحليف على ما رسم به ،
[ ص: 696 ] وجاء كتاب السلطان أنه جلس على السرير يوم الجمعة عاشر صفر ، وشق
القاهرة في سادس عشرة في أبهة المملكة وعليه الخلعة الخليفية ، والأمراء بين يديه مشاة ، وأنه قد استناب
بمصر الأمير
شمس الدين قراسنقر المنصوري ، وخطب
للمنصور لاجين بدمشق أول يوم من ربيع الأول ، وحضر المقصورة القضاة
وشمس الدين الأعسر وكجكن وأسندمر وجماعة من أمراء
دمشق ، وتوجه القاضي
إمام الدين القزويني وحسام الدين الحنفي وجمال الدين المالكي إلى
الديار المصرية مطلوبين ، وقدم الأمير
حسام الدين أستاذدار السلطان ،
وسيف الدين جاغان من جهة السلطان ، فحلف الأمراء ثانية ، ودخلوا على العادل إلى القلعة ، ومعهم القاضي
بدر الدين بن جماعة وكجكن ، فحلفوه أيمانا مؤكدة بعد ما طال بينهم الكلام بالتركي ، وذكر في حلفه أنه راض بما يعينه له من البلدان أي بلد كان ، فوقع التعيين بعد اليمين على قلعة
صرخد ، وجاءت المراسيم بالوزارة
لتقي الدين توبة ، وعزل
شهاب الدين الحنفي ، وبالحسبة
لأمين الدين يوسف الأرمني الرومي صاحب
شمس الدين الأيكي ، عوضا عن
زين الدين الحنفي ، أخي
شهاب الدين الذي كان وزيرا ، ودخل الأمير
سيف الدين قبجق المنصوري على نيابة
الشام إلى
دمشق بكرة السبت السادس عشر من ربيع الأول ، ونزل دار السعادة عوضا عن
غرلو العادلي ، وقد خرج الجيش بكماله لتلقيه ، وحضر يوم الجمعة إلى المقصورة ، فصلى بها وقرئ بعد الجمعة
[ ص: 697 ] كتاب السلطان بإبطال الضمانات من الأوقاف والأملاك بغير رضا أصحابها ، قرأه القاضي
محيي الدين بن فضل الله صاحب ديوان الإنشاء ، ونودي في البلد : من له مظلمة فليأت يوم الثلاثاء إلى دار العدل . وخلع على الأمراء والمقدمين وأرباب المناصب من القضاة والكتبة وغيرهم ، وخلع على
ابن جماعة خلعتين; واحدة للقضاء والأخرى للخطابة .
ولما كان في شهر جمادى الآخرة وصل البريد فأخبر بولاية
إمام الدين القزويني قضاء القضاة
بالشام عوضا عن
بدر الدين بن جماعة ، وإبقاء
ابن جماعة على الخطابة ، وأضيف إليه تدريس القيمرية التي كانت بيد
إمام الدين ، وجاء كتاب السلطان بذلك ، وفيه احترام وإكرام له ، فدرس بالقيمرية يوم الخميس ثاني رجب ، ودخل إمام الدين إلى
دمشق عقيب صلاة الظهر يوم الأربعاء الثامن من رجب فجلس بالعادلية ، وحكم بين الخصوم ، وامتدحه الشعراء بقصائد ، منها قصيدة لبعضهم يقول في أولها :
تبدلت الأيام من عسرها يسرا فأضحت ثغور الشام تفتر بالبشرى
وكان حال دخوله عليه خلعة السلطان ، ومعه القاضي
جمال الدين الزواوي قاضي قضاة المالكية وعليه خلعة أيضا ، وقد شكر سيرة إمام الدين في السفر ، وذكر من حسن أخلاقه ورياضته ما هو حسن جميل ، ودرس بالعادلية بكرة الأربعاء منتصف رجب ، وأشهد عليه بعد الدرس بتولية أخيه
جلال الدين نيابة
[ ص: 698 ] الحكم ، وجلس في الإيوان الصغير وحكم ، وألبسه أخوه خلعة وجاء الناس يهنئونه ، وقرئ تقليده يوم الجمعة بالشباك الكمالي بعد الصلاة بحضرة نائب السلطنة وبقية القضاة ، قرأه
شرف الدين الفزاري .
وفي شعبان وصل الخبر بأن
شمس الدين الأعسر تولى
بالديار المصرية شد الدواوين والوزارة ، وباشر المنصبين جميعا ، وباشر نظر الدواوين
بدمشق فخر الدين بن الشيرجي عوضا عن
نجم الدين بن صصرى ، ثم عزل بعد قليل بشهر أو أقل
بأمين الدين بن هلال ، وأعيدت الشامية البرانية إلى الشيخ
زين الدين الفارقي مع الناصرية بسبب غيبة
كمال الدين بن الشريشي بالقاهرة ، ودرس فيها في شهر رمضان يوم اثنين بعد العصر .
وفي الرابع عشر من ذي القعدة مسك الأمير
شمس الدين قراسنقر المنصوري نائب
الديار المصرية للاجين هو وجماعة من الأمراء معه ، واحتيط على حواصلهم وأموالهم
بمصر والشام ، وولى السلطان نيابة
مصر الأمير
سيف الدين منكوتمر الحسامي ، وهؤلاء الأمراء الذين مسكهم هم الذين كانوا قد أعانوه وبايعوه على العادل
كتبغا ، وقدم الشيخ
كمال الدين بن الشريشي من
الديار المصرية ومعه توقيع بتدريس الناصرية عوضا عن الشامية البرانية ، ودرس فيها يوم السبت يوم
عرفة ، وأمسك الأمير
شمس الدين سنقر الأعسر وزير
مصر وشاد الدواوين يوم السبت الثالث والعشرين من ذي الحجة ، واحتيط على أمواله وحواصله
بمصر والشام أيضا ، ونودي
بمصر في ذي الحجة أن لا يركب أحد من أهل الذمة فرسا
[ ص: 699 ] ولا بغلا ، ومن وجد منهم راكبا ذلك أخذ منه .
وفيها ملك
اليمن السلطان الملك المؤيد
هزبر الدين داود بن الملك المظفر المتقدم ذكره في التي قبلها .