[ ص: 22 ] أوائل وقعة شقحب
وفي ثامن عشره قدمت طائفة كثيرة من جيش المصريين ، فيهم الأمير
ركن الدين بيبرس الجاشنكير ، والأمير
حسام الدين لاجين المعروف بالأستادار المنصوري ، والأمير
سيف الدين كراي المنصوري ، ثم قدمت بعدهم طائفة أخرى ، فيهم
بدر الدين أمير
سلاح ، وأيبك الخزندار ، فقويت القلوب ، واطمأن كثير من الناس ، ولكن الناس في جفل عظيم من بلاد
حلب ،
وحماة ، وحمص ، وتلك النواحي ، وتقهقر الجيش الحلبي والحموي إلى
حمص ، ثم خافوا أن يدهمهم
التتر ، فجاءوا فنزلوا المرج يوم الأحد خامس عشرين شعبان ، ووصل
التتر إلى
حمص ،
وبعلبك ، وعاثوا في تلك الأراضي فسادا ، وقلق الناس قلقا عظيما ، وخافوا خوفا شديدا ، واختبط البلد لتأخر قدوم السلطان ببقية الجيش ، وقال الناس : لا طاقة لجيش
الشام مع هؤلاء المصريين بلقاء
التتار لكثرتهم ، وإنما سبيلهم
[ ص: 23 ] أن يتأخروا عنهم مرحلة مرحلة ، وتحدث الناس بالأراجيف ، فاجتمع الأمراء يوم الأحد المذكور بالميدان الأخضر ، وتحالفوا على لقاء العدو ، وشجعوا أنفسهم ، ونودي بالبلد أن لا يرحل أحد منه ، فسكن الناس ، وجلس القضاة بالجامع ، وحلفوا جماعة من الفقهاء والعامة على القتال ، وتوجه الشيخ
تقي الدين ابن تيمية إلى العسكر الواصل من
حماة ، فاجتمع بهم في القطيفة ، فأعلمهم بما تحالف عليه الأمراء والناس من لقاء العدو ، فأجابوا إلى ذلك ، وحلفوا معهم ، وكان الشيخ
تقي الدين ابن تيمية يحلف للأمراء والناس : إنكم في هذه الكرة منصورون على
التتار ، فيقول له الأمراء : قل إن شاء الله ، فيقول : إن شاء الله تحقيقا لا تعليقا ، وكان يتأول في ذلك أشياء من كتاب الله ، منها قوله تعالى :
ذلك ومن عاقب بمثل ما عوقب به ثم بغي عليه لينصرنه الله إن الله لعفو غفور [ الحج : 60 ] .
وقد تكلم الناس في كيفية قتال هؤلاء
التتر من أي قبيل هو ، فإنهم يظهرون الإسلام ، وليسوا بغاة على الإمام ، فإنهم لم يكونوا في طاعته في وقت ثم خالفوه ، فقال الشيخ
تقي الدين : هؤلاء من جنس
الخوارج الذين خرجوا على
علي ومعاوية ، ورأوا أنهم أحق بالأمر منهما ، وهؤلاء يزعمون أنهم أحق بإقامة الحق من المسلمين ، ويعيبون على المسلمين ما هم متلبسون به من المعاصي والظلم ،
[ ص: 24 ] وهم متلبسون بما هو أعظم منه بأضعاف مضاعفة ، فتفطن العلماء والناس لذلك ، وكان يقول للناس : إذا رأيتموني من ذلك الجانب وعلى رأسي مصحف ، فاقتلوني ، فتشجع الناس في قتال
التتار ، وقويت قلوبهم ونياتهم ، ولله الحمد .
ولما كان يوم الأربعاء الثامن والعشرين من شعبان ، خرجت العساكر الشامية ، فخيمت على
الجسورة من ناحية
الكسوة ، ومعهم القضاة ، فصار الناس فيهم فريقين ، فريق يقولون : إنما ساروا ليختاروا موضعا للقتال ، فإن المرج فيه مياه كثيرة ، فلا يستطيعون معها القتال ، وقال فريق : إنما ساروا إلى تلك الجهة ليهربوا ، وليلحقوا بالسلطان .
فلما كانت ليلة الخميس ، ساروا إلى ناحية
الكسوة ، فقويت ظنون الناس في هربهم ، وقد وصلت
التتار إلى
قارة ، وقيل : إنهم وصلوا إلى
القطيفة ، فانزعج الناس لذلك انزعاجا شديدا ، ولم يبق حول البلد من القرى والحواضر أحد ، وامتلأت
القلعة ، وازدحمت المنازل والطرقات ، واضطرب الناس ، وخرج الشيخ
تقي الدين ابن تيمية صبيحة يوم الخميس من الشهر المذكور من باب النصر بمشقة كبيرة ، وصحبته جماعة ليشهد القتال بنفسه ومن معه ، فظنوا أنه إنما خرج هاربا ، فحصل له لوم من بعض الناس ، وقالوا : أنت منعتنا من الجفل ، وها أنت هارب من البلد ! فلم يرد عليهم ، وبقي البلد ليس فيه حاكم ، وعاثت
[ ص: 25 ] اللصوص والحرافيش فيه وفي بساتين الناس يخربون وينهبون ما قدروا عليه ، ويقطعون المشمش قبل أوانه ، وكذلك الباقلاء ، والقمح ، والشعير ، وسائر الخضراوات ، وحيل بين الناس وبين خبر الجيش ، وانقطعت الطرق إلى الكسوة ، وظهرت الوحشة على البلد والحواضر ، وليس للناس شغل غير الصعود إلى المآذن ينظرون يمينا وشمالا وإلى ناحية الكسوة ، فتارة يقولون : رأينا غبرة .
فيخافون أن تكون من التتر ، ويتعجبون من خبر الجيش مع كثرتهم ، وجودة عدتهم أين ذهبوا ! ولا يدرون ما فعل الله بهم ، فانقطعت الآمال ، وألح الناس في الدعاء والابتهال ، وفي الصلوات ، وفي كل حال ، وذلك يوم الخميس التاسع والعشرين من شعبان ، وكان الناس في خوف ورعب لا يعبر عنه ، لكن كان الفرج من ذلك قريبا ، ولكن أكثرهم لا يعلمون ، كما جاء في حديث
أبي رزين :
عجب ربك من قنوط عباده ، وقرب غيره ، ينظر إليكم أزلين قنطين ، فيظل يضحك ، يعلم أن فرجكم قريب . فلما كان آخر هذا اليوم وصل الأمير
فخر الدين أياس المرقبي أحد أمراء
دمشق ، فبشر الناس بخير ، وهو أن السلطان قد وصل وقد اجتمعت العساكر المصرية والشامية ، وقد أرسلني أكشف هل طرق البلد أحد من
التتر ؟ فوجد الأمر كما يحب ،
[ ص: 26 ] لم يطرقها أحد منهم وذلك أن
التتار عرجوا عن
دمشق إلى ناحية العساكر المصرية ، ولم يشتغلوا بالبلد ، بل قالوا : إن غلبنا فالبلد لنا ، وإن غلبنا فلا حاجة لنا به . ونودي في البلد بتطييب الخواطر ، وأن السلطان قد وصل ، فاطمأن الناس ، وسكنت قلوبهم ، وثبت الشهر ليلة الجمعة على القاضي
تقي الدين الحنبلي ، فإن السماء كانت مغيمة ، فعلقت القناديل ، وصليت التراويح ، واستبشر الناس بشهر رمضان وبركته ، وأصبح الناس يوم الجمعة في هم شديد ، وخوف أكيد ؛ لأنهم لا يعلمون ما خبر الناس ، فبينما هم كذلك إذ جاء الأمير
سيف الدين غرلو العادلي ، فاجتمع بنائب
القلعة ، ثم عاد سريعا ولم يدر أحد ما أخبر به ، ووقع الناس في الأراجيف والخوض .