[ ص: 83 ] ثم دخلت
سنة تسع وسبعمائة
استهلت وخليفة الوقت
المستكفي أمير المؤمنين
ابن الحاكم بأمر الله العباسي ، وسلطان البلاد
الملك المظفر ركن الدين بيبرس الجاشنكير ، ونائبه
بمصر الأمير سيف الدين سلار ،
وبالشام آقوش الأفرم ، وقضاة
مصر والشام هم المذكورون في التي قبلها . وفي ليلة سلخ صفر توجه الشيخ
تقي الدين ابن تيمية من
القاهرة إلى
الإسكندرية صحبة أمير مقدم ، فأدخله دار السلطان ، وأنزله في برج منها فسيح متسع الأكناف ، فكان الناس يدخلون عليه ، ويشتغلون في سائر العلوم ، ثم كان بعد ذلك يحضر الجمعات ، ويعمل المواعيد على عادته في الجوامع ، وكان دخوله إلى
الإسكندرية يوم الأحد ، وبعد عشرة أيام وصل خبره إلى
دمشق ، فحصل للناس عليه تألم ، وخافوا عليه من غائلة
الجاشنكير وشيخه
نصر المنبجي ، فتضاعف له الدعاء ، وذلك أنهم لم يمكنوا أحدا من أصحابه أن يخرج معه إلى
الإسكندرية ، فضاقت له الصدور ، وذلك أنه تمكن منه عدوه
نصر المنبجي ، وكان سبب عداوته له أن الشيخ
تقي الدين ابن تيمية كان ينال من
الجاشنكير ، ومن شيخه
نصر المنبجي ، ويقول : زالت
[ ص: 84 ] أيامه ، وانتهت رياسته ، وقرب انقضاء أجله ، ويتكلم فيهما وفي
ابن عربي وأتباعه ، فأرادوا أن يسيروه إلى
الإسكندرية كهيئة المنفي لعل أحدا من أهلها يتجاسر عليه فيقتله غيلة ، فيستريحوا منه ، فما زاد ذلك الناس إلا محبة فيه ، وقربا منه ، وانتفاعا به ، واشتغالا عليه ، وحنوا وكرامة له ، وجاء كتاب من أخيه يقول فيه : إن الأخ الكريم قد نزل بالثغر المحروس على نية الرباط ، فإن أعداء الله قصدوا بذلك أمورا يكيدونه بها ، ويكيدون الإسلام وأهله ، فكانت تلك كرامة في حقنا ، وظنوا أن ذلك يؤدي إلى هلاك الشيخ ، فانقلبت عليهم مقاصدهم الخبيثة ، وانعكست من كل الوجوه ، وأصبحوا وأمسوا ومازالوا عند الله وعند عباده العارفين سود الوجوه ، يتقطعون حسرات وندما على ما فعلوا ، وانقلب أهل الثغر أجمعين إلى الأخ مقبلين ، عليه مكرمين له ، وفي كل وقت ينشر من كتاب الله وسنة رسوله ما تقر به أعين المؤمنين ، وذلك شجى في حلوق الأعداء ، واتفق أنه وجد
بالإسكندرية إبليس قد باض فيها وفرخ ، وأضل بها فرق
السبعينية والعربية ، فمزق الله بقدومه عليهم شملهم ، وشتت جموعهم شذر مذر ، وهتك أستارهم ، وفضحهم ، واستتاب جماعة كثيرة منهم ، وتوب رئيسا من رؤسائهم ، واستقر عند عامة المؤمنين وخواصهم - من أمير وقاض ، وفقيه ومفت ، وشيخ وجماعة المجتهدين ، إلا من شذ من الأغمار الجهال ، مع الذلة والصغار - محبة الشيخ وتعظيمه ، وقبول كلامه ، والرجوع إلى أمره ونهيه ، فعلت كلمة الله بها على أعداء الله ورسوله ، ولعنوا سرا وجهرا ، وباطنا وظاهرا ، في مجامع الناس بأسمائهم الخاصة بهم ، وصار بذلك عند نصر
المنبجي المقيم المقعد ، ونزل به من الخوف والذل مالا يعبر عنه . وذكر كلاما كثيرا .
[ ص: 85 ] والمقصود أن
الشيخ تقي الدين أقام بثغر
الإسكندرية ثمانية أشهر ، مقيما
ببرج متسع ، مليح نظيف ، له شباكان أحدهما إلى جهة البحر ، والآخر إلى جهة
المدينة ، وكان يدخل عليه من شاء ، ويتردد إليه الأكابر ، والأعيان ، والفقهاء ، يقرءون عليه ، ويستفيدون منه ، وهو في أطيب عيش وأشرح صدر .
وفي آخر ربيع الأول عزل
الشيخ كمال الدين بن الزملكاني عن نظر المارستان بسبب انتمائه إلى
ابن تيمية ، بإشارة
المنبجي ، وباشره
شمس الدين عبد القادر بن الحظيري .
وفي يوم الثلاثاء ثالث ربيع الآخر ولي قضاء الحنابلة بالديار المصرية الشيخ الإمام
الحافظ سعد الدين أبو محمود مسعود بن أحمد بن مسعود بن زين الدين الحارثي ، شيخ الحديث
بمصر ، بعد وفاة
القاضي شرف الدين أبي محمد عبد الغني بن يحيى بن محمد بن عبد الله بن نصر بن أبي بكر الحراني .
وفي جمادى الأولى برزت المراسيم السلطانية المظفرية إلى نواب البلاد السواحلية بإبطال الخمور ، وتخريب الخانات ، ونفي أهلها ، ففعل ذلك ، وفرح المسلمون بذلك فرحا شديدا .
وفي مستهل جمادى الآخرة وصل بريد بتولية قضاء الحنابلة
بدمشق للشيخ
شهاب الدين أحمد بن شريف الدين حسن بن الحافظ جمال الدين أبي موسى عبد الله بن الحافظ عبد الغني المقدسي ، عوضا عن قاضي القضاة التقي
[ ص: 86 ] سليمان بن حمزة بسبب تكلمه في نزول
الملك الناصر عن الملك ، وأنه إنما نزل عنه مضطهدا في ذلك ، ليس بمختار ، وقد صدق فيما قال .
وفي العشرين من جمادى الآخرة وصل البريد بولاية شد الدواوين
nindex.php?page=showalam&ids=15554للأمير سيف الدين بكتمر الحاجب عوضا عن
الرستمي ، فلم يقبل ، وبنظر الخزانة
للأمير عز الدين أحمد بن زين الدين محمد بن أحمد بن محمود ، المعروف بابن القلانسي ، فباشرها ، وعزل عنها
البصراوي محتسب البلد .
وفي هذا الشهر باشر قاضي القضاة
ابن جماعة مشيخة سعيد السعداء
بالقاهرة ، بطلب
الصوفية له ، ورضوا منه بالحضور عندهم في الجمعة مرة واحدة ، وعزل عنها
الشيخ كريم الدين الآملي ؛ لأنه عزل منها الشهود ، فثاروا عليه ، وكتبوا في حقه محاضر بأشياء قادحة في الدين ، فرسم بصرفه عنهم ، وعومل بنظير ما كان يعامل به الناس ، ومن جملة ذلك قيامه على شيخ الإسلام
ابن تيمية ، وافتراؤه عليه الكذب ، مع جهله ، وقلة ورعه ، فعجل الله له هذا الجزاء على يدي أصحابه وأصدقائه جزاء وفاقا .
وفي شهر رجب كثر الخوف
بدمشق ، وانتقل الناس من ظاهرها إلى داخلها ، وسبب ذلك أن
السلطان الملك الناصر محمد بن قلاوون ركب من
الكرك قاصدا
دمشق يطلب عوده إلى الملك ، وقد مالأه جماعة من الأمراء ، وكاتبوه في الباطن ، وناصحوه ، وقفز إليه جماعة من أمراء المصريين ، وتحدث
[ ص: 87 ] الناس بسفر نائب
دمشق الأفرم إلى
القاهرة ليكون مع الجم الغفير ، فاضطرب الناس ، ولم تفتح أبواب البلد إلى ارتفاع النهار ، وتخبطت الأمور ، فاجتمع القضاة وكثير من الأمراء بالقصر ، وجددوا البيعة للملك المظفر ، وفي آخر نهار السبت غلقت أبواب البلد بعد العصر ، وازدحم الناس
بباب النصر ، وحصل لهم تعب عظيم ، وازدحم البلد بأهل القرى ، وكثر الناس بالبلد ، وجاء البريد بوصول
الملك الناصر إلى
الخمان ، فانزعج نائب
الشام لذلك ، وأظهر أنه يريد قتاله ومنعه من دخول البلد ، وقفز إليه الأميران
ركن الدين بيبرس المجنون ،
وبيبرس العلائي ، وركب إليه
الأمير سيف الدين بكتمر الحاجب يشير عليه بالرجوع ، ويخبره بأنه لا طاقة له بقتال المصريين ، ولحقه
الأمير سيف الدين بهادر آص يشير عليه بمثل ذلك ، ثم عاد إلى
دمشق يوم الثلاثاء خامس رجب ، وأخبر أن السلطان
الملك الناصر قد عاد إلى
الكرك ، فسكن الناس ، ورجع نائب السلطنة إلى القصر ، وتراجع بعض الناس إلى مساكنهم ، واستقروا بها .