قضية القاضي ابن جملة
لما كان في العشر الأخر من رمضان وقع بين القاضي
ابن جملة وبين
الشيخ الظهير شيخ ملك الأمراء - وكان هو السفير في تولية
ابن جملة القضاء - فوقع
[ ص: 363 ] بينهما منافسة ومحاققة في أمور كانت بينه وبين
الدودار المتقدم ذكره ناصر الدين ، فحلف كل واحد منهما على خلاف ما حلف الآخر عليه ، وتفاصلا من
دار السعادة في المسجد ، فلما رجع القاضي إلى منزله بالعادلية أرسل إلى
الشيخ الظهير ليحكم فيه بما فيه المصلحة ، وذلك عن مرسوم النائب ، وكأنه كان خديعة في الباطن وإظهارا لنصرة القاضي عليه في الظاهر ، فبدر به القاضي بادي الرأي فعزره بين يديه ، ثم خرج من عنده فتسلمه أعوان
ابن جملة ، فطافوا به البلد على حمار يوم الأربعاء سابع عشرين رمضان ، وضربوه ضربا عنيفا ، ونادوا عليه : هذا جزاء من يكذب ويفتات على الشرع ، فتألم الناس له; لكونه في الصيام وفي العشر الأخير من رمضان ، ويوم سبعة وعشرين ، وهو شيخ كبير صائم ، فيقال : إنه ضرب يومئذ ألفين ومائة وإحدى وسبعين درة ، والله أعلم .
فما أمسى حتى استفتي على القاضي المذكور وداروا على المشايخ بسبب ذلك عن مرسوم النائب ، فلما كان يوم تاسع عشرين رمضان عقد نائب السلطنة بين يديه
بدار السعادة مجلسا حافلا بالقضاة وأعيان المفتين من سائر المذاهب ، وأحضر
ابن جملة قاضي القضاة الشافعية ، والمجلس قد احتفل بأهله ، ولم يأذنوا
لابن جملة في الجلوس ، بل قام قائما ثم أجلس بعد ساعة في طرف الحلقة إلى جانب المحفة التي فيها
الشيخ الظهير ، وادعى عليه عند بقية القضاة أنه حكم فيه لنفسه ، واعتدى عليه في العقوبة ، وأفاض الحاضرون في ذلك ، وانتشر
[ ص: 364 ] الكلام ، وفهموا من نفس النائب الحط على
ابن جملة ، والميل عنه بعد أن كان إليه ، فما انفصل المجلس حتى حكم
القاضي شرف الدين المالكي بفسقه وعزله وسجنه ، فانفض المجلس على ذلك ، ورسم على
ابن جملة بالعذراوية ، ثم نقل إلى القلعة جزاء وفاقا ، والحمد لله وحده ، وكان له في القضاء سنة ونصف إلا أياما ، وكان يباشر الأحكام جيدا ، وكذا الأوقاف المتعلقة به ، وفيه نزاهة وتمييز الأوقاف بين الفقهاء والفقراء ، وفيه صرامة وشهامة وإقدام ، لكنه أخطأ في هذه الواقعة ، وتعدى فيها ، فآل أمره إلى هذا .
وخرج الركب يوم الاثنين عاشر شوال ، وأميره ألجيبغا ، وقاضيه
مجد الدين بن حيان المصري .
وفي يوم الاثنين الرابع والعشرين درس بالإقبالية الحنفية
نجم الدين ابن قاضي القضاة عماد الدين الطرسوسي الحنفي عوضا عن شمس الدين
محمد بن عثمان بن محمد الأصبهاني بن العجمي الحبطي ، ويعرف
بابن الحنبلي ، وكان فاضلا دينا متقشفا ، كثير الوسوسة في الماء جدا ، وأما المدرس مكانه وهو
نجم الدين بن الحنفي ، فإنه ابن خمس عشرة سنة ، وهو في النباهة ، والفهم ، وحسن الاشتغال ، والشكل ، والوقار ، بحيث غبط الحاضرون كلهم أباه على ذلك; ولهذا آل أمره أن تولى قضاء القضاة في حياة أبيه ، نزل له عنه ، وحمدت سيرته وأحكامه .
وفي هذا الشهر أثبت محضر في حق الصاحب
شمس الدين غبريال المتوفى هذه السنة - أنه كان يشتري أملاكا من بيت المال ، ويوقفها ، ويتصرف فيها تصرف
[ ص: 365 ] الملاك لنفسه ، وشهد بذلك
كمال الدين الشيرازي ، وابن أخيه عماد الدين ، وعلاء
الدين القلانسي ، وابن خاله
عماد الدين القلانسي ، وعز الدين بن المنجا ، وتقي
الدين بن مراجل ، وجمال الدين بن الفويره ، وأثبت على القاضي
برهان الدين الزرعي الحنبلي ، ونفذه بقية القضاة ، وامتنع المحتسب
عز الدين بن القلانسي من الشهادة ، فرسم عليه بالعذراوية قريبا من شهر ، ثم أفرج عنه ، وعزل عن الحسبة ، واستمر على نظر الخزانة .
وفي يوم الأحد ثامن عشرين ذي القعدة حملت خلعة القضاء إلى الشيخ
شهاب الدين بن المجد وكيل بيت المال يومئذ ، فلبسها ، وركب إلى
دار السعادة ، وقرئ تقليده بحضرة نائب السلطنة والقضاة ، ثم رجع إلى مدرسته الإقبالية ، فقرئ بها أيضا ، وحكم بين خصمين ، وكتب على أوراق السائلين ، ودرس بالعادلية ، والغزالية ، والأتابكية ، مع تدريس الإقبالية ، وذلك عوضا عن
ابن جملة .
وفي يوم الجمعة رابع الحجة حضر الأمير
حسام الدين مهنا بن عيسى ، وفي صحبته صاحب
حماة الأفضل بن المؤيد ، فتلقاهما تنكز وأكرمهما ، وصليا الجمعة عند النائب ، ثم توجها إلى
مصر ، فتلقاهما أعيان الأمراء ، وأكرم السلطان
مهنا بن عيسى ، وأطلق له أموالا جزيلة كثيرة من الذهب ، والفضة ، والقماش ، وأقطعه عدة قرى ، ورسم له بالعود إلى أهله ، ففرح الناس بذلك . قالوا : وكان
[ ص: 366 ] جميع ما أنعم عليه السلطان به قيمة مائة ألف دينار ، وخلع عليه وعلى أصحابه مائة وسبعون خلعة .
وفي يوم الأحد سادس الحجة حضر درس الرواحية
الفخر المصري عوضا عن
قاضي القضاة ابن المجد ، وحضر عنده القضاة الأربعة وأعيان الفضلاء .
وفي يوم
عرفة خلع على
نجم الدين بن أبي الطيب بوكالة بيت المال ، عوضا عن
قاضي القضاة ابن المجد ، وعلى الشيخ
عز الدين بن منجا بنظر الجامع ، وعلى
عماد الدين بن الشيرازي بالحسبة عوضا عن
عز الدين بن القلانسي ، وخرج الثلاثة من
دار السعادة بالطرحات .