عقد مجلس بسبب قاضي القضاة تاج الدين السبكي
ولما كان يوم الاثنين الرابع والعشرين من ربيع الأول عقد مجلس حافل
بدار السعادة ; بسبب ما رمي به قاضي القضاة
تاج الدين الشافعي ابن قاضي القضاة تقي الدين السبكي ، وكنت ممن طلب إليه ، فحضرته فيمن حضر ، وقد اجتمع فيه القضاة الثلاثة ، وخلق من المذاهب الأربعة ، وآخرون من غيرهم - بحضرة نائب
الشام سيف الدين منكلي بغا ، وكان قد سافر هو إلى الديار المصرية إلى الأبواب الشريفة ، واستنجز كتابا إلى نائب السلطنة لجمع هذا المجلس ليسأل عنه الناس ، وكان قد كتب فيه محضران متعاكسان; أحدهما له والآخر عليه ، وفي الذي عليه خط القاضيين المالكي والحنبلي ، وجماعة آخرين ، وفيه عظائم ، وأشياء منكرة جدا ينبو السمع عن استماعه ، وفي الآخر خطوط جماعات من المذاهب بالثناء عليه ، وفيه خطي بأني ما رأيت عليه إلا خيرا . ولما اجتمعوا أمر نائب السلطنة بأن يمتاز هؤلاء عن هؤلاء في المجالس ، فصارت كل طائفة وحدها ، وتحاوروا فيما بينهم ، وناضل عنه نائبه
[ ص: 709 ] القاضي
شمس الدين الغزي ، والنائب الآخر
بدر الدين بن وهيبة ، وغيرهما ، وصرح قاضي القضاة
جمال الدين الحنبلي بأنه قد ثبت عنده ما كتب به خطه فيه ، وأجابه بعض الحاضرين منهم بدائم النفوذ ، فبادر القاضي الغزي ، فقال للحنبلي : أنت قد ثبتت عداوتك لقاضي القضاة
تاج الدين .
فكثر القول ، وارتفعت الأصوات ، وكثر الجدال والمقال ، وتكلم قاضي القضاة
جمال الدين المالكي أيضا بنحو ما قال الحنبلي ، فأجيب بمثل ذلك أيضا ، وطال المجلس ، فانفصلوا على مثل ذلك ، ولما بلغت الباب أمر نائب السلطنة برجوعي إليه ، فإذا بقية الناس من الطرفين ، والقضاة الثلاثة جلوس ، فأشار نائب السلطنة بالصلح بينهم وبين قاضي القضاة
تاج الدين - يعني : وأن يرجع القاضيان عما قالا - فأشار الشيخ
شرف الدين ابن قاضي الجبل وأشرت أنا أيضا بذلك ، فلان المالكي وامتنع الحنبلي ، فقمنا والأمر باق على ما تقدم . ثم اجتمعنا يوم الجمعة بعد العصر عند نائب السلطنة عن طلبه ، فتراضوا كيف يكون جواب الكتابات مع مطالعة نائب السلطنة ، ففعل ذلك ، وسار البريد بذلك إلى الديار المصرية ، ثم اجتمعنا أيضا يوم الجمعة بعد الصلاة التاسع عشر من ربيع الآخر
بدار السعادة ، وحضر القضاة الثلاثة وجماعة آخرون ، واجتهد نائب السلطنة في الصلح بين القضاة وقاضي الشافعية وهو
بمصر ، فحصل خلف وكلام طويل ، ثم كان الأمر أن سكنت أنفس جماعة منهم إلى ذلك ، على ما سنذكره في الشهر الآتي .
وفي مستهل ربيع الآخر كانت وفاة
المعلم داود الذي كان مباشرا لنظارة
[ ص: 710 ] الجيش ، وأضيف إليه نظر الدواوين إلى آخر وقت فاجتمع له هاتان الوظيفتان ، ولم يجتمعا لأحد قبله كما في علمي ، وكان من أخبر الناس بنظر الجيش ، وأعلمهم بأسماء رجاله ومواضع الإقطاعات ، وقد كان والده نائبا لنظار الجيوش ، وكان يهوديا قرائيا ، فأسلم ولده هذا قبل وفاة نفسه بسنوات عشر أو نحوها ، وقد كان ظاهره جيدا ، والله أعلم بسره وسريرته ، وقد تمرض قبل وفاته بشهر أو نحوه ، حتى كانت وفاته في هذا اليوم ، فصلي عليه بالجامع الأموي تجاه النسر بعد العصر ، ثم حمل إلى تربة له أعدها في بستانه بجوبر ، وله من العمر قريب الخمسين .
وفي أوائل هذا الشهر ورد المرسوم الشريف السلطاني بالرد على نساء
النصارى ما كان أخذ منهن مع الجباية التي كان تقدم أخذها منهن ، وإن كان الجميع ظلما ، ولكن الأخذ من النساء أفحش وأبلغ في الظلم ، والله أعلم ، وفي يوم الاثنين الخامس عشر منه أمر نائب السلطنة - أعزه الله - بكبس بساتين
أهل الذمة ، فوجد فيها من الخمر المعتصر من الخوابي والحباب ، فأريقت عن آخرها - ولله الحمد والمنة - بحيث جرت في الأزقة والطرقات ، وفاض نهر ثورا من ذلك ، وأمر بمصادرة
أهل الذمة الذين وجد عندهم ذلك بمال جزيل وهم تحت الجباية ، وبعد أيام نودي في البلد بأن
نساء [ ص: 711 ] أهل الذمة لا تدخل الحمامات مع المسلمات ، بل تدخل حمامات تختص بهن ، ومن دخل من
أهل الذمة الرجال مع الرجال المسلمين
يكون في رقاب الكفار علامات يعرفون بها من أجراس ، وخواتيم ، ونحو ذلك ، وأمر نساء
أهل الذمة بأن تلبس المرأة خفيها مخالفين في اللون بأن يكون أحدهما أبيض ، والآخر أصفر أو نحو ذلك .
ولما كان يوم الجمعة التاسع عشر من الشهر - أعني : ربيعا الآخر - طلب القضاة الثلاثة وجماعة من المفتين; فمن ناحية الشافعي نائباه ، وهما القاضي
شمس الدين الغزي ، والقاضي
بدر الدين بن وهيبة ، والشيخ
جمال الدين ابن قاضي الزبداني ، والمصنف الشيخ
عماد الدين بن كثير ، والشيخ
بدر الدين حسن الزرعي ، والشيخ
تقي الدين الفارقي ، ومن الجانب الآخر قاضيا القضاة
جمال الدين المالكي والحنبلي ، والشيخ
شرف الدين ابن قاضي الجبل الحنبلي ، والشيخ
جمال الدين بن الشريشي ، والشيخ
عز الدين بن حمزة ابن شيخ السلامية الحنبلي ، وعماد الدين الأخنائي ، فاجتمعت مع نائب السلطنة بالقاعة التي في صدر إيوان
دار السعادة ، وجلس نائب السلطنة في صدر المكان ، وجلسنا حوله ، فكان أول ما قال : كنا نحن
الترك وغيرنا إذا اختلفنا واختصمنا نجيء بالعلماء فيصلحون بيننا ، فصرنا نحن إذا اختلفت العلماء واختصموا ، فمن يصلح بينهم ؟! وشرع في تأنيب من شنع على الشافعي بما تقدم ذكره من تلك الأقوال والأفاعيل التي كتبت في تلك الأوراق وغيرها ، وأن هذا يشفي الأعداء بنا ، وأشار بالصلح بين القضاة بعضهم من بعض ، فصمم بعضهم ،
[ ص: 712 ] وامتنع من ذلك ، وجرت مناقشات من بعض الحاضرين فيما بينهم ، ثم حصل بحث في مسائل ، ثم قال نائب السلطنة أخيرا : أما سمعتم قول الله تعالى :
عفا الله عما سلف [ المائدة : 95 ] . فلانت القلوب عند ذلك ، وأمر كاتب السر أن يكتب مضمون ذلك في مطالعة إلى الديار المصرية ، ثم خرجنا على ذلك .