صفحة جزء
ذكر ضيافة أبي طلحة الأنصاري رسول الله صلى الله عليه وسلم وما ظهر في ذلك اليوم من دلائل النبوة في تكثيره الطعام النزر ، حتى عم من هنالك من الضيفان وأهل المنزل والجيران

قال البخاري : ثنا عبد الله بن يوسف ، أخبرنا مالك ، عن إسحاق بن عبد الله [ ص: 633 ] بن أبي طلحة ، أنه سمع أنس بن مالك يقول : قال أبو طلحة لأم سليم : لقد سمعت صوت رسول الله صلى الله عليه وسلم ضعيفا أعرف فيه الجوع ، فهل عندك من شيء ؟ قالت : نعم . فأخرجت أقراصا من شعير ، ثم أخرجت خمارا لها ، فلفت الخبز ببعضه ، ثم دسته تحت يدي ولاثتني ببعضه ، ثم أرسلتني إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم . قال : فذهبت به ، فوجدت رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد ومعه الناس ، فقمت عليهم ، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أرسلك أبو طلحة ؟ " فقلت : نعم . قال : " بطعام ؟ " فقلت : نعم . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمن معه : " قوموا " فانطلق وانطلقت بين أيديهم حتى جئت أبا طلحة فأخبرته ، فقال أبو طلحة : يا أم سليم ، قد جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم والناس ، وليس عندنا ما نطعمهم . فقالت : الله ورسوله أعلم . فانطلق أبو طلحة حتى لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو طلحة معه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " هلمي يا أم سليم ، ما عندك ؟ " فأتت بذلك الخبز ، فأمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم ففت ، وعصرت أم سليم عكة فأدمته ، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه ما شاء الله أن يقول ، ثم قال : " ائذن لعشرة " . فأذن لهم ، فأكلوا حتى شبعوا ثم خرجوا ، ثم قال : " ائذن لعشرة " . فأذن لهم . فأكلوا حتى شبعوا ثم خرجوا ، ثم قال : " ائذن لعشرة " فأذن لهم ، فأكلوا حتى شبعوا ثم خرجوا ، ثم قال : " ائذن لعشرة " . فأكل القوم كلهم والقوم سبعون أو ثمانون رجلا . وقد رواه البخاري في مواضع أخر من " صحيحه " ومسلم من غير وجه عن مالك به .

[ ص: 634 ] طريق آخر عن أنس بن مالك رضي الله عنه : قال أبو يعلى : ثنا هدبة بن خالد ، ثنا مبارك بن فضالة ، ثنا بكر وثابت البناني ، عن أنس ، أن أبا طلحة رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم طاويا ، فجاء إلى أم سليم ، فقال : إني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم طاويا ، فهل عندك من شيء ؟ قالت : ما عندنا إلا نحو من مد دقيق شعير . قال : فاعجنيه وأصلحيه ، عسى أن ندعو رسول الله صلى الله عليه وسلم فيأكل عندنا . قال : فعجنته وخبزته ، فجاء قرصا ، فقال لي : يا أنس ، ادع رسول الله صلى الله عليه وسلم . فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه ناس . قال مبارك : أحسبه قال : بضعة وثمانون . قال : فقلت : يا رسول الله ، أبو طلحة يدعوك . فقال لأصحابه : " أجيبوا أبا طلحة " . فجئت جزعا حتى أخبرته أنه قد جاء بأصحابه . قال بكر : فقفدني قفدة . وقال ثابت : قال أبو طلحة : رسول الله أعلم بما في بيتي مني . وقالا جميعا عن أنس : فاستقبله أبو طلحة فقال : يا رسول الله ، ما عندنا شيء إلا قرص ، رأيتك طاويا فأمرت أم سليم فجعلت لك قرصا . قال : فدعا بالقرص ، ودعا بجفنة فوضعه فيها وقال : " هل من سمن ؟ " قال أبو طلحة : قد كان في العكة شيء . قال : فجاء بها . قال : فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو طلحة يعصرانها حتى خرج شيء مسح رسول الله صلى الله عليه وسلم به سبابته ، ثم مسح القرص فانتفخ ، فقال : " بسم الله " . فانتفخ القرص ، فلم يزل يصنع كذلك والقرص ينتفخ ، حتى رأيت القرص في [ ص: 635 ] الجفنة يتصيع ، فقال : " ادع عشرة من أصحابي " . فدعوت له عشرة ، قال : فوضع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده وسط القرص ، وقال : " كلوا بسم الله " . فأكلوا من حوالي القرص حتى شبعوا ، ثم قال : " ادع لي عشرة آخرين " . فدعوت له عشرة أخرى ، فقال : " كلوا بسم الله " . فأكلوا من حوالي القرص حتى شبعوا ، فلم يزل يدعو عشرة عشرة يأكلون من ذلك القرص ، حتى أكل منه بضعة وثمانون من حوالي القرص حتى شبعوا ، وإن وسط القرص حيث وضع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده كما هو . وهذا إسناد حسن على شرط أصحاب السنن ، ولم يخرجوه . فالله أعلم .

طريق أخرى عن أنس بن مالك : قال الإمام أحمد : ثنا عبد الله بن نمير ، ثنا سعد - يعني ابن سعيد بن قيس - ( أخبرني أنس بن مالك قال : بعثني أبو طلحة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لأدعوه ، وقد جعل له طعاما . قال : فأقبلت ورسول الله صلى الله عليه وسلم مع الناس . قال : فنظر إلي فاستحييت ، فقلت : أجب أبا طلحة . فقال للناس : " قوموا " فقال أبو طلحة : يا رسول الله ، إنما صنعت شيئا لك! قال فمسها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ودعا فيها بالبركة ، ثم قال : " أدخل نفرا من أصحابي عشرة " . فقال : " كلوا " . فأكلوا حتى شبعوا وخرجوا ، وقال : " [ ص: 636 ] أدخل عشرة " . فقال : " كلوا " فأكلوا حتى شبعوا ، فما زال يدخل عشرة ويخرج عشرة حتى لم يبق منهم أحد إلا دخل فأكل حتى شبع ، ثم هيأها فإذا هي مثلها حين أكلوا منها وقد رواه مسلم عن أبي بكر بن أبي شيبة ومحمد بن عبد الله بن نمير ، كلاهما عن عبد الله بن نمير ، وعن سعيد بن يحيى الأموي عن أبيه ، كلاهما عن سعد بن سعيد بن قيس الأنصاري .

طريق أخرى : رواه مسلم في الأطعمة ، عن عبد بن حميد ، عن خالد بن مخلد ، عن محمد بن موسى ، عن عبد الله بن عبد الله بن أبي طلحة ، عن أنس ، فذكر نحو ما تقدم . وقد رواه أبو يعلى الموصلي ، عن محمد بن عباد المكي ، عن حاتم ، عن معاوية بن أبي مزرد ، عن عبد الله بن عبد الله بن أبي طلحة ، عن أبيه ، عن أبي طلحة ، فذكره . والله أعلم .

طريق أخرى عن أنس : قال الإمام أحمد : ثنا علي بن عاصم ، ثنا حصين بن عبد الرحمن ، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى ، عن أنس بن مالك قال : أتى أبو طلحة بمدين من شعير ، فأمر به فصنع طعاما ، ثم قال لي : يا أنس ، انطلق ائت رسول الله صلى الله عليه وسلم فادعه ، وقد تعلم ما عندنا . قال : فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه عنده ، فقلت : إن أبا طلحة يدعوك إلى طعام . فقام [ ص: 637 ] وقال للناس " قوموا " فقاموا ، فجئت أمشي بين يديه حتى دخلت على أبي طلحة فأخبرته ، قال : فضحتنا! قلت : إني لم أستطع أن أرد على رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره . فلما انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الباب قال لهم : " اقعدوا " . ودخل عاشر عشرة ، فلما دخل أتي بالطعام ، تناول فأكل وأكل معه القوم حتى شبعوا ، ثم قال لهم : " قوموا وليدخل عشرة مكانكم " . حتى دخل القوم كلهم وأكلوا . قال : قلت : كم كانوا ؟ قال : كانوا نيفا وثمانين . قال : وفضل لأهل البيت ما أشبعهم . وقد رواه مسلم في الأطعمة ، عن عمرو الناقد ، عن عبد الله بن جعفر الرقي ، عن عبيد الله بن عمرو ، عن عبد الملك بن عمير ، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى ، عن أنس قال : أمر أبو طلحة أم سليم ؛ قال : اصنعي للنبي صلى الله عليه وسلم لنفسه خاصة طعاما يأكل منه . فذكر نحو ما تقدم .

طريق أخرى عن أنس : قال أبو يعلى : ثنا شجاع بن مخلد ، ثنا وهب بن جرير ثنا أبي ، سمعت جرير بن زيد يحدث عن عمرو بن عبد الله بن أبي طلحة ، عن أنس بن مالك ، قال : رأى أبو طلحة رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد مضطجعا يتقلب ظهرا لبطن ، فأتى أم سليم فقال : رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم مضطجعا في المسجد يتقلب ظهرا لبطن ، ولا أراه إلا جائعا . فخبزت أم سليم قرصا ، ثم قال لي أبو طلحة : اذهب فادع رسول الله صلى الله عليه وسلم . فأتيته وعنده [ ص: 638 ] أصحابه ، فقلت : يا رسول الله ، يدعوك أبو طلحة . فقام وقال " قوموا " قال : فجئت أسعى إلى أبي طلحة ، فأخبرته أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد جاء ومعه أصحابه ، فتلقاه أبو طلحة فقال : يا رسول الله إنما هو قرص . فقال : " إن الله سيبارك فيه " . فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم وجيء بالقرص في قصعة فقال : " هل من سمن ؟ " فجيء بشيء من سمن ، فغور القرص بأصبعه هكذا ، ورفعها ثم صب وقال : " كلوا من بين أصابعي " . فأكل القوم حتى شبعوا ، ثم قال : " أدخل علي عشرة " . فأكلوا حتى شبعوا ، حتى أكل القوم فشبعوا ، وأكل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو طلحة وأم سليم وأنا حتى شبعنا . وفضلت فضلة أهدينا لجيران لنا . ورواه مسلم في الأطعمة من " صحيحه " عن حسن الحلواني ، عن وهب بن جرير بن حازم ، عن أبيه ، عن عمه جرير بن زيد ، عن عمرو بن عبد الله بن أبي طلحة ، عن أنس بن مالك ، فذكر نحو ما تقدم .

طريق أخرى عن أنس : قال الإمام أحمد : ثنا يونس بن محمد ، ثنا حماد ، يعني ابن زيد ، عن هشام ، عن محمد ، يعني ابن سيرين ، عن أنس - قال حماد : والجعد قد ذكره - قال : عمدت أم سليم إلى نصف مد شعير فطحنته ، ثم عمدت إلى عكة كان فيها شيء من سمن ، فاتخذت منه [ ص: 639 ] خطيفة . قال : ثم أرسلتني إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم . قال : فأتيته وهو في أصحابه فقلت : إن أم سليم أرسلتني إليك تدعوك . فقال : " أنا ومن معي " . قال : فجاء هو ومن معه . قال : فدخلت فقلت لأبي طلحة : قد جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن معه . قال : فخرج أبو طلحة فمشى إلى جنب النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال : يا رسول الله ، إنما هي خطيفة اتخذتها أم سليم من نصف مد شعير! قال : فدخل فأتى به . قال : فوضع يده فيها ، ثم قال : " أدخل عشرة " . قال : فدخل عشرة ، فأكلوا حتى شبعوا ، ثم دخل عشرة فأكلوا ، ثم عشرة فأكلوا ، حتى أكل منها أربعون ، كلهم أكلوا حتى شبعوا قال : وبقيت كما هي . قال فأكلنا .

وقد رواه البخاري في الأطعمة ، عن الصلت بن محمد ، عن حماد بن زيد ، عن الجعد أبي عثمان ، عن أنس ، وعن هشام بن محمد ، عن أنس ، وعن سنان أبي ربيعة ، عن أنس ، أن أم سليم عمدت إلى مد من شعير جشته ، وجعلت منه خطيفة ، وعمدت إلى عكة فيها شيء من سمن فعصرته ، ثم بعثتني إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في أصحابه . الحديث بطوله .

ورواه أبو يعلى الموصلي ، ثنا عمرو بن الضحاك ، ثنا أبي ، سمعت [ ص: 640 ] أشعث الحمراني قال : قال محمد بن سيرين : حدثني أنس بن مالك ، أن أبا طلحة بلغه أنه ليس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم طعام ، فذهب فآجر نفسه بصاع من شعير ، فعمل يومه ذلك ، فجاء به وأمر أم سليم أن تعمله خطيفة . وذكر الحديث .

طريق أخرى عن أنس : قال الإمام أحمد ثنا : يونس بن محمد ، ثنا حرب بن ميمون ، عن النضر بن أنس ، عن أنس بن مالك قال : قالت أم سليم : اذهب إلى نبي الله صلى الله عليه وسلم فقل : إن رأيت أن تغدى عندنا فافعل . فجئته فبلغته ، فقال : " ومن عندي ؟ " قلت : نعم . قال : " انهضوا " قال : فجئت فدخلت على أم سليم وأنا لدهش ؛ لمن أقبل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم . قال : فقالت أم سليم : ما صنعت يا أنس ؟ ! فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على إثر ذلك ، فقال : " هل عندك سمن ؟ " قالت : نعم ، قد كان منه عندي عكة ، وفيها شيء من سمن . قال : " فأتينها " . قالت : فجئت بها ، ففتح رباطها ثم قال : " بسم الله ، اللهم أعظم فيها البركة " . قال : فقال : " اقلبيها " فقلبتها فعصرها نبي الله صلى الله عليه وسلم وهو يسمي . قال : فأخذت تقع فدرا ، فأكل منها بضع وثمانون [ ص: 641 ] رجلا وفضل فضلة فدفعها إلى أم سليم ، فقال : " كلي وأطعمي جيرانك " وقد رواه مسلم في الأطعمة ، عن حجاج بن الشاعر ، عن يونس بن محمد المؤدب به .

طريق أخرى : قال أبو القاسم البغوي ثنا علي بن المديني ، ثنا عبد العزيز بن محمد الدراوردي ، عن عمرو بن يحيى بن عمارة المازني ، عن أبيه عن أنس بن مالك ، أن أمه أم سليم صنعت خزيرا ، فقال أبو طلحة : اذهب يا بني ، فادع رسول الله صلى الله عليه وسلم . قال : فجئته وهو بين ظهراني الناس ، فقلت : إن أبي يدعوك . قال : فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال للناس : " انطلقوا " . قال : فلما رأيته قام بالناس تقدمت بين أيديهم ، فجئت أبا طلحة فقلت : يا أبه ، قد جاءك رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناس . قال : فقام أبو طلحة على الباب وقال : يا رسول الله ، إنما كان شيئا يسيرا . فقال : " هلمه ، فإن الله سيجعل فيه البركة " . فجاء به فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يده فيه ، ودعا الله بما شاء الله أن يدعو ، ثم قال : " أدخل عشرة عشرة " . فجاءه منهم ثمانون فأكلوا وشبعوا ورواه مسلم في الأطعمة ، عن عبد بن حميد ، عن القعنبي عن الدراوردي ، عن عمرو بن يحيى بن عمارة بن أبي حسن الأنصاري المازني ، عن أبيه عن أنس بن مالك بنحو ما تقدم .

[ ص: 642 ] طريق أخرى : ورواه مسلم في الأطعمة أيضا ، عن حرملة ، عن ابن وهب ، عن أسامة بن زيد الليثي ، عن يعقوب بن عبد الله بن أبي طلحة ، عن أنس ، كنحو ما تقدم . قال البيهقي : وفي بعض حديث هؤلاء : ثم أكل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأكل أهل البيت ، وأفضلوا ما بلغ جيرانهم .

فهذه طرق متواترة عن أنس بن مالك رضي الله عنه ، أنه شاهد ذلك - على ما فيه من اختلاف عنه في بعض حروفه - ولكن أصل القصة متواتر لا محالة كما ترى ، ولله الحمد والمنة ، فقد رواه عن أنس بن مالك إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة ، وبكر بن عبد الله المزني ، وثابت بن أسلم البناني ، والجعد بن عثمان ، وسعد بن سعيد - أخو يحيى بن سعيد - الأنصاري ، وسنان بن ربيعة ، وعبد الله بن عبد الله بن أبي طلحة ، وعبد الرحمن بن أبي ليلى ، وعمرو بن عبد الله بن أبي طلحة ، ومحمد بن سيرين ، والنضر بن أنس ، ويحيى بن عمارة بن أبي حسن ، ويعقوب بن عبد الله بن أبي طلحة . وقد تقدم في غزوة الخندق حديث جابر في إضافته صلى الله عليه وسلم على صاع من شعير وعناق ، فعزم عليه الصلاة والسلام ، على أهل الخندق بكمالهم ، فكانوا ألفا أو قريبا من ألف ، فأكلوا كلهم من تلك العناق وذلك الصاع ، حتى شبعوا وتركوه كما كان ، وقد أسلفناه بسنده ومتنه وطرقه ، ولله الحمد والمنة .

ومن العجيب الغريب ما ذكره الحافظ أبو عبد الرحمن محمد بن المنذر [ ص: 643 ] الهروي ، المعروف ب " شكر " في كتاب " العجائب الغريبة " في هذا الحديث ، فإنه أسنده وساقه بطوله ، وذكر في آخره شيئا غريبا فقال : ثنا محمد بن علي بن طرخان ، ثنا محمد بن مسرور ، أنا هاشم بن هاشم ، ويكنى بأبي برزة - بمكة في المسجد الحرام - ثنا أبو كعب البداح بن سهل الأنصاري - من أهل المدينة من الناقلة الذين نقلهم هارون إلى بغداد - سمعت منه بالمصيصة ، عن أبيه سهل بن عبد الرحمن ، عن أبيه عبد الرحمن بن كعب ، عن أبيه كعب بن مالك قال : أتى جابر بن عبد الله إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فعرف في وجهه الجوع . فذكر أنه رجع إلى منزله ، فذبح داجنا كانت عندهم وطبخها ، وثرد تحتها في جفنة ، وحملها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأمره أن يدعو له الأنصار ، فأدخلهم عليه أرسالا ، فأكلوا كلهم وبقي مثل ما كان ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرهم أن يأكلوا ولا يكسروا عظما ، ثم إنه جمع العظام في وسط الجفنة ، فوضع عليها يده ، ثم تكلم بكلام لا أسمعه ، إلا أني أرى شفتيه تتحرك ، فإذا الشاة قد قامت تنفض أذنيها ، فقال : " خذ شاتك يا جابر ، بارك الله لك فيها " . قال : فأخذتها ومضيت ، وإنها لتنازعني أذنها ، حتى أتيت بها البيت ، فقالت لي المرأة : ما هذا يا جابر ؟ فقلت : هذه والله شاتنا التي ذبحناها لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، دعا الله فأحياها لنا . فقالت : أشهد أنه رسول الله ، أشهد أنه رسول الله ، أشهد أنه رسول الله . .

حديث آخر عن أنس في معنى ما تقدم : قال أبو يعلى الموصلي والباغندي : ثنا شيبان ، ثنا محمد بن عيسى - بصري ، وهو صاحب الطعام - [ ص: 644 ] ثنا ثابت البناني ، قلت لأنس بن مالك : يا أنس ، أخبرني بأعجب شيء رأيته . قال : نعم يا ثابت ، خدمت رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر سنين ، فلم يغير علي شيئا أسأت فيه ، وإن نبي الله صلى الله عليه وسلم لما تزوج زينب بنت جحش قالت لي أمي : يا أنس إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أصبح عروسا ، ولا أدري أصبح له غداء ، فهلم تلك العكة . فأتيتها بالعكة وبتمر ، فجعلت له حيسا ، فقالت : يا أنس ، اذهب بهذا إلى نبي الله صلى الله عليه وسلم ، وامرأته . فلما أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بتور من حجارة فيه ذلك الحيس ، قال : " ضعه في ناحية البيت ، وادع لي أبا بكر وعمر وعليا وعثمان " - ونفرا من أصحابه - " ثم ادع لي أهل المسجد ، ومن رأيت في الطريق " . قال : فجعلت أتعجب من قلة الطعام ، ومن كثرة ما يأمرني أن أدعو الناس ، وكرهت أن أعصيه ، حتى امتلأ البيت والحجرة ، فقال : " يا أنس هل ترى من أحد ؟ " فقلت : لا يا رسول الله . قال : " هات ذلك التور " . فجئت بذلك التور ، فوضعته قدامه ، فغمس ثلاث أصابع في التور ، فجعل التمر يربو ، فجعلوا يتغدون ويخرجون ، حتى إذا فرغوا أجمعون وبقي في التور نحو ما جئت به ، قال : " ضعه قدام زينب " . فخرجت وأسفقت عليهم بابا من جريد . قال ثابت : قلنا : يا أبا حمزة ، كم ترى كان الذين أكلوا من ذلك [ ص: 645 ] التور ؟ فقال : أحسب واحدا وسبعين أو اثنين وسبعين . وهذا حديث غريب من هذا الوجه ، ولم يخرجوه .

حديث آخر عن أبي هريرة في ذلك : قال جعفر بن محمد الفريابي : ثنا عثمان بن أبي شيبة ، ثنا حاتم بن إسماعيل ، عن أنيس بن أبي يحيى ، عن إسحاق بن سالم عن أبي هريرة قال : خرج علي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : " ادع لي أصحابك من أصحاب الصفة " . فجعلت أتبعهم رجلا رجلا ، فجمعتهم فجئنا باب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فاستأذنا فأذن لنا . قال أبو هريرة فوضعت بين أيدينا صحفة ، أظن أن فيها قدر مد من شعير . قال : فوضع رسول الله صلى الله عليه وسلم عليها يده ، وقال : " خذوا بسم الله " . قال : فأكلنا ما شئنا ثم رفعنا أيدينا ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين وضعت الصحفة : " والذي نفسي بيده ما أمسى في آل محمد طعام ليس ترونه " . قيل لأبي هريرة : قدر كم كانت حين فرغتم منها ؟ قال : مثلها حين وضعت ، إلا أن فيها أثر الأصابع . وهذه قصة غير قصة أهل الصفة المتقدمة في شربهم اللبن ، كما قدمنا .

حديث آخر عن أبي أيوب في ذلك : قال جعفر الفريابي : ثنا أبو سلمة يحيى بن خلف ، ثنا عبد الأعلى ، عن سعيد الجريري ، عن أبي الورد ، عن أبي محمد الحضرمي ، عن أبي أيوب الأنصاري قال : صنعت لرسول الله [ ص: 646 ] صلى الله عليه وسلم ولأبي بكر طعاما قدر ما يكفيهما ، فأتيتهما به ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " اذهب فادع لي ثلاثين من أشراف الأنصار " . قال : فشق ذلك علي ، ما عندي شيء أزيده . قال : فكأني تثاقلت . فقال : " اذهب فادع لي ثلاثين من أشراف الأنصار " فدعوتهم فجاءوا فقال : " اطعموا " . فأكلوا حتى صدروا ، ثم شهدوا أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم بايعوه قبل أن يخرجوا ، ثم قال : " اذهب فادع لي ستين من أشراف الأنصار " . قال أبو أيوب : فوالله لأنا بالستين أجود مني بالثلاثين . قال : فدعوتهم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " تربعوا " . فأكلوا حتى صدروا ، ثم شهدوا أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وبايعوه قبل أن يخرجوا . قال : " فاذهب فادع لي تسعين من الأنصار " قال : فلأنا أجود بالتسعين والستين مني بالثلاثين . قال : فدعوتهم فأكلوا حتى صدروا ، ثم شهدوا أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وبايعوه قبل أن يخرجوا . قال : فأكل من طعامي ذلك مائة وثمانون رجلا ، كلهم من الأنصار . وهذا حديث غريب جدا إسنادا ومتنا . وقد رواه البيهقي من حديث محمد بن أبي بكر المقدمي ، عن عبد الأعلى به .

قصة أخرى في تكثير الطعام في بيت فاطمة : قال الحافظ أبو يعلى : ثنا سهل بن زنجلة ، ثنا عبد الله بن صالح ، حدثني ابن لهيعة ، عن محمد بن المنكدر ، عن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقام أياما لم يطعم طعاما حتى شق ذلك عليه ، فطاف في منازل أزواجه ، فلم يصب عند واحدة منهن شيئا ، فأتى فاطمة فقال : " يا بنية هل عندك شيء آكله فإني جائع ؟ " فقالت : لا والله ، بأبي [ ص: 647 ] أنت وأمي . فلما خرج من عندها رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثت إليها جارة لها برغيفين وقطعة لحم ، فأخذته منها فوضعته في جفنة لها ، وغطت عليها وقالت : والله لأوثرن بهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم على نفسي ومن عندي . وكانوا جميعا محتاجين إلى شبعة طعام ، فبعثت حسنا أو حسينا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فرجع إليها فقالت له : بأبي أنت وأمي ، قد أتى الله بشيء فخبأته لك . قال : " هلمي يا بنية " . فكشفت عن الجفنة ، فإذا هي مملوءة خبزا ولحما ، فلما نظرت إليها بهتت ، وعرفت أنها بركة من الله ، فحمدت الله وصلت على نبيه صلى الله عليه وسلم وقدمته إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما رآه حمد الله وقال : " من أين لك هذا يا بنية ؟ " قالت : يا أبه ، هو من عند الله ، إن الله يرزق من يشاء بغير حساب . فحمد الله وقال : " الحمد لله الذي جعلك يا بنية شبيهة سيدة نساء بني إسرائيل ، فإنها كانت إذا رزقها الله شيئا فسئلت عنه ، قالت : هو من عند الله ، إن الله يرزق من يشاء بغير حساب " . فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى علي ، ثم أكل رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلي وفاطمة وحسن وحسين ، وجميع أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم وأهل بيته جميعا حتى شبعوا . قالت : وبقيت الجفنة كما هي ، فأوسعت بقيتها على جميع جيرانها ، وجعل الله فيها بركة وخيرا كثيرا وهذا حديث غريب أيضا إسنادا ومتنا . وقد قدمنا في أول البعثة حين نزل قوله تعالى : وأنذر عشيرتك الأقربين [ الشعراء : 214 ] حديث ربيعة بن ناجذ ، عن علي في دعوته ، عليه الصلاة والسلام بني هاشم ، وكانوا نحوا من أربعين ، فقدم إليهم [ ص: 648 ] طعاما من مد فأكلوا حتى شبعوا ، وتركوه كما هو ، وسقاهم من عس شرابا حتى رووا ، وتركوه كما هو ثلاثة أيام متتابعة ، ثم دعاهم إلى الله تعالى ، كما تقدم .

قصة أخرى في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم : قال الإمام أحمد : ثنا علي بن عاصم ، ثنا سليمان التيمي ، عن أبي العلاء بن الشخير ، عن سمرة بن جندب قال : بينما نحن عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ أتي بقصعة فيها ثريد . قال فأكل وأكل القوم ، فلم يزالوا يتداولونها إلى قريب من الظهر ، يأكل قوم ، ثم يقومون ، ويجيء قوم فيتعاقبونه . قال : فقال له رجل : هل كانت تمد بطعام ؟ قال : أما من الأرض فلا ، إلا أن تكون كانت تمد من السماء .

ثم رواه أحمد ، عن يزيد بن هارون ، عن سليمان ، عن أبي العلاء ، عن سمرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتي بقصعة فيها ثريد ، فتعاقبوها إلى الظهر من غدوة ، يقوم ناس ويقعد آخرون ، قال له رجل : هل كانت تمد ؟ فقال له : فمن أي شيء تعجب ؟ ما كانت تمد إلا من هاهنا . وأشار إلى السماء . وقد رواه الترمذي والنسائي عن بندار ، عن يزيد بن هارون وقال الترمذي : حسن صحيح . ورواه النسائي أيضا من حديث معتمر بن سليمان ، عن أبيه ، عن أبي العلاء ، واسمه يزيد بن عبد الله بن الشخير ، عن سمرة بن جندب به .

التالي السابق


الخدمات العلمية