القول
فيما أوتي إبراهيم الخليل ، عليه السلام .
قال شيخنا العلامة
أبو المعالي بن الزملكاني ، رحمه الله وبل بالرحمة ثراه : وأما خمود النار
لإبراهيم ، عليه الصلاة والسلام ، فقد خمدت لنبينا صلى الله عليه وسلم نار
فارس ولم تخمد قبل ذلك بألف عام ، لمولده صلى الله عليه وسلم وبينه وبين بعثته أربعون سنة ، وخمدت نار
إبراهيم لمباشرته لها ، وخمدت نار
فارس لنبينا صلى الله عليه وسلم وبينه وبينها مسافة أشهر . كذا ، وهذا الذي أشار إليه من
[ ص: 329 ] خمود نار
فارس ليلة مولده الكريم قد ذكرناه بأسانيده وطرقه في أول السيرة عند ذكر المولد المطهر المشرف المكرم ، بما فيه كفاية ومقنع .
ثم قال شيخنا : مع أنه قد ألقي بعض هذه الأمة في النار فلم تؤثر فيه ببركة نبينا صلى الله عليه وسلم ، منهم
أبو مسلم الخولاني . قال : تنبأ
الأسود بن قيس العنسي باليمن ، فأرسل إلى
nindex.php?page=showalam&ids=12150أبي مسلم الخولاني فقال له : أتشهد أن
محمدا رسول الله ؟ قال : نعم . قال : أتشهد أني رسول الله ؟ قال : ما أسمع . فأعاد عليه ، فقال : ما أسمع . فأمر بنار عظيمة فأججت ، وطرح فيها
أبو مسلم فلم تضره . فقيل له : لئن تركت هذا في بلادك أفسدها عليك . فأمره بالرحيل ، فقدم
المدينة وقد قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم واستخلف
أبو بكر ، فقام إلى سارية من سواري المسجد يصلي ، فبصر به
عمر فقال : من أين الرجل ؟ قال : من
اليمن . قال : ما فعل عدو الله بصاحبنا الذي حرقه بالنار فلم تضره ؟ قال : ذاك
عبد الله بن ثوب . قال : نشدتك بالله أنت هو ؟ قال : اللهم نعم . قال : فاعتنقه ثم بكى ، ثم ذهب به حتى أجلسه بينه وبين
أبي بكر الصديق ، وقال : الحمد لله الذي لم يمتني حتى أراني في أمة
محمد صلى الله عليه وسلم من فعل به كما فعل
بإبراهيم خليل الرحمن ، عليه السلام . وهذا السياق الذي أورده شيخنا بهذه الصفة قد رواه الحافظ الكبير
nindex.php?page=showalam&ids=13359أبو القاسم بن عساكر ، رحمه الله ، في ترجمة
nindex.php?page=showalam&ids=12150أبي مسلم عبد الله بن ثوب في " تاريخه "
[ ص: 330 ] من غير وجه ، عن
عبد الوهاب بن نجدة ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=12434إسماعيل بن عياش الحمصي ، حدثني
شرحبيل بن مسلم الخولاني ، أن
الأسود بن قيس بن ذي الخمار العنسي تنبأ
باليمن ، فأرسل إلى
nindex.php?page=showalam&ids=12150أبي مسلم الخولاني فأتى به ، فلما جاءه قال : أتشهد أني رسول الله ؟ قال : ما أسمع . قال : أتشهد أن
محمدا رسول الله ؟ قال : نعم . قال : أتشهد أني رسول الله ؟ قال : ما أسمع . قال : أتشهد أن
محمدا رسول الله ؟ قال : نعم . قال : فردد ذلك عليه مرارا ، ثم أمر بنار عظيمة فأججت فألقى
أبا مسلم فيها فلم تضره ، فقيل
للأسود : انفه عنك وإلا أفسد عليك من اتبعك . فأمره ، فارتحل
أبو مسلم ، فأتى
المدينة وقد قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم واستخلف
أبو بكر ، فأناخ
أبو مسلم راحلته بباب المسجد ، ثم دخل المسجد وقام يصلي إلى سارية ، وبصر به
عمر بن الخطاب فأتاه فقال : ممن الرجل ؟ فقال : من أهل
اليمن . قال : ما فعل الرجل الذي حرقه الكذاب بالنار ؟ قال : ذاك
عبد الله بن ثوب . قال : فأنشدك بالله أنت هو ؟ قال : اللهم نعم . قال : فاعتنقه وبكى ، ثم ذهب به حتى أجلسه بينه وبين
أبي بكر الصديق ، فقال : الحمد لله الذي لم يمتني حتى أراني في أمة
محمد صلى الله عليه وسلم من فعل به كما فعل
بإبراهيم خليل الرحمن . قال
[ ص: 331 ] إسماعيل بن عياش : فأنا أدركت رجالا من الأمداد الذين يمدون إلينا من
اليمن ; من خولان ، ربما تمازحوا فيقول
الخولانيون للعنسيين : صاحبكم الكذاب حرق صاحبنا بالنار فلم تضره .
وروى الحافظ ابن عساكر أيضا من غير وجه ، عن إبراهيم بن دحيم : حدثنا هشام بن عمار ، حدثنا الوليد أخبرني سعيد بن بشير ، عن أبي بشر جعفر بن أبي وحشية ، أن
رجلا من خولان أسلم ، فأراده قومه على الكفر ، فألقوه في نار فلم يحترق منه إلا أنملة لم يكن فيما مضى يصيبها الوضوء ، فقدم على أبي بكر فقال : استغفر لي قال : أنت أحق . قال أبو بكر : إنك ألقيت في النار فلم تحترق . فاستغفر له ، ثم خرج إلى
الشام فكانوا يشبهونه بإبراهيم ، عليه السلام .
وهذا الرجل هو
أبو مسلم الخولاني ، وهذه الرواية بهذه الزيادة تحقق أنه إنما نال ذلك ببركة متابعته الشريعة المحمدية المطهرة المقدسة ، كما جاء في حديث الشفاعة : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=3512226وحرم الله على النار أن تأكل مواضع السجود " . وقد نزل
أبو مسلم بداريا من غربي
دمشق ، وكان لا يسبقه أحد إلى المسجد الجامع
بدمشق وقت الصبح ، وكان يغازي في بلاد
الروم ، وله أحوال وكرامات كثيرة جدا ، وقبره مشهور
بداريا ، والظاهر أنه مقامه الذي كان يكون فيه ، فإن
nindex.php?page=showalam&ids=13359الحافظ ابن عساكر رجح أنه مات ببلاد
الروم ، في خلافة
معاوية ، وقيل : في أيام ابنه
[ ص: 332 ] يزيد ، بعد الستين . والله أعلم . وقد وقع
nindex.php?page=showalam&ids=12208لأحمد بن أبي الحواري مع شيخه
nindex.php?page=showalam&ids=12032أبي سليمان الداراني قصة تشبه هذا ، كما رواه
nindex.php?page=showalam&ids=13359الحافظ أبو القاسم بن عساكر في " تاريخه " في ترجمة
أحمد بن أبي الحواري من غير وجه : أنه جاء إلى أستاذه
أبي سليمان يعلمه أن التنور قد سجروه ، وأهله ينتظرون ما يأمرهم به ، فوجده يكلم الناس وهم حوله ، فأعلمه بذلك ، فاشتغل عنه بالناس ، ثم أعلمه فلم يلتفت إليه ، ثم أعلمه مع أولئك الذين حوله ، فقال له وهو مغضب : اذهب فاجلس فيه . ثم تشاغل بالحديث مع أولئك الذين حوله ،
وذهب أحمد بن أبي الحواري إلى التنور ، فجلس فيه وهو يتضرم نارا ، فكان عليه بردا وسلاما ، وما زال فيه حتى استيقظ
أبو سليمان من كلامه ، فقال لمن حوله : قوموا بنا إلى
أحمد بن أبي الحواري ، فإني أظنه قد ذهب إلى التنور فجلس فيه امتثالا لما أمرته به ، فذهبوا فوجدوه جالسا فيه ، فأخذ بيده
الشيخ أبو سليمان وأخرجه منه ، رحمة الله عليهما ، ورضي الله عنهما .
وقال شيخنا
أبو المعالي : وأما إلقاؤه - يعني
إبراهيم عليه السلام ، من المنجنيق ، فقد وقع في حديث
nindex.php?page=showalam&ids=70البراء بن مالك في وقعة
مسيلمة الكذاب ، وأن أصحاب
مسيلمة انتهوا إلى حائط حفير فتحصنوا به وأغلقوا
[ ص: 333 ] الباب ، فقال
nindex.php?page=showalam&ids=70البراء بن مالك : ضعوني على ترس ، واحملوني على رءوس الرماح ، ثم ألقوني من أعلاها داخل الباب . ففعلوا ذلك وألقوه عليهم ،
فوقع وقام وقاتل المشركين حتى قتل عشرة أو أكثر ، وفتح الباب للمسلمين ، فكان سبب هلاك المشركين وقتل مسيلمة .
قلت : وقد ذكرت ذلك مستقصى في أيام الصديق حين بعث
خالد بن الوليد لقتال
مسيلمة وبني حنيفة ، وكانوا في قريب من مائة ألف أو يزيدون ، وكان المسلمون بضعة عشر ألفا ، فلما التقوا جعل كثير من الأعراب يفرون ، فقال المهاجرون والأنصار : أخلصنا يا
خالد . فميزهم عنهم ، فكان
المهاجرون والأنصار قريبا من ألفين وخمسمائة ، فصمموا الحملة وجعلوا يتذامرون ويقولون : يا أصحاب سورة " البقرة " بطل السحر اليوم . فهزموهم بإذن الله وألجأوهم إلى حديقة هنالك - وتسمى حديقة الموت - فتحصنوا بها ، فحصروهم فيها ، ففعل
nindex.php?page=showalam&ids=70البراء بن مالك أخو أنس بن مالك ، وكان الأكبر ، ما ذكر من رفعه على ترسه فوق الرماح حتى تمكن من أعلى سورها ، ثم ألقى نفسه عليهم ونهض سريعا إليهم ، ولم يزل يقاتلهم وحده ويقاتلونه حتى تمكن من فتح باب الحديقة ، ودخل المسلمون يكبرون وانتهوا إلى قصر
مسيلمة وهو واقف خارجه عند ثلمة جدار ، كأنه جمل أورق ، أي من سمرته ، فابتدره
وحشي بن حرب الأسود قاتل
حمزة بحربته
، وأبو دجانة سماك بن خرشة [ ص: 334 ] الأنصاري - وهو الذي ينسب إليه شيخنا هذا
أبو المعالي بن الزملكاني - فسبقه
وحشي فأرسل الحربة عليه من بعد فأنفذها منه ، وجاء إليه
أبو دجانة فعلاه بسيفه فقتله ، لكن صرخت جارية من فوق القصر تندب
مسيلمة ، فقالت : واأمير المؤمنيناه ، قتله العبد الأسود . ويقال : إن عمر
مسيلمة ، لعنه الله ، يوم قتل مائة وأربعون سنة . فهو ممن طال عمره وساء عمله ، قبحه الله . وهذا ما ذكره شيخنا فيما يتعلق
بإبراهيم الخليل ، عليه السلام .
وأما
nindex.php?page=showalam&ids=12181الحافظ أبو نعيم فإنه قال : فإن قيل : فإن
إبراهيم خص بالخلة مع النبوة . قيل : فقد اتخذ الله
محمدا خليلا وحبيبا ، والحبيب ألطف من الخليل . ثم ساق من حديث
شعبة ، عن
أبي إسحاق ، عن
أبي الأحوص ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=10عبد الله بن مسعود ، رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=3512227لو كنت متخذا خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا ، ولكن صاحبكم خليل الله . وقد رواه
مسلم من طريق
شعبة والثوري ، عن
أبي إسحاق ، ومن طريق
عبد الله بن مرة وعبد الله بن أبي الهذيل ، كلهم عن
أبي الأحوص عوف بن مالك الجشمي قال : سمعت
nindex.php?page=showalam&ids=10عبد الله بن مسعود يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :
لو كنت متخذا خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا ، ولكنه أخي وصاحبي ، وقد اتخذ الله ، عز وجل ، صاحبكم ، خليلا . هذا لفظ
مسلم . ورواه
مسلم أيضا منفردا به ، عن
جندب بن عبد الله البجلي ، كما سأذكره . وأصل الحديث
[ ص: 335 ] في " الصحيحين " عن
أبي سعيد ، وفي أفراد
nindex.php?page=showalam&ids=12070البخاري ، عن
ابن عباس وابن الزبير ، كما سقت ذلك في فضائل الصديق ، رضي الله عنه ، وقد أوردناه هنالك من رواية
أنس ،
والبراء ،
وجابر ،
nindex.php?page=showalam&ids=331وكعب بن مالك ،
وأبي سعيد بن المعلى ، وأبي هريرة
nindex.php?page=showalam&ids=397، وأبي واقد الليثي ،
nindex.php?page=showalam&ids=25وعائشة أم المؤمنين ، رضي الله عنهم أجمعين . ثم إنما رواه
أبو نعيم من حديث
عبيد الله بن زحر عن
علي بن يزيد ، عن
القاسم ، عن
أبي أمامة ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=331كعب بن مالك أنه قال : عهدي بنبيكم صلى الله عليه وسلم قبل وفاته بخمسة أيام ، فسمعته يقول :
nindex.php?page=hadith&LINKID=3512228لم يكن نبي إلا له خليل من أمته ، وإن خليلي أبو بكر ، وإن الله اتخذ صاحبكم خليلا . وهذا الإسناد ضعيف .
ومن حديث
محمد بن عجلان ، عن أبيه ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=3أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
لكل نبي خليل ، وخليلي أبو بكر بن أبي قحافة
، وخليل صاحبكم الرحمن . وهو غريب من هذا الوجه .
ومن حديث
عبد الوهاب بن الضحاك ، عن
إسماعيل بن عياش ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=16230صفوان بن عمرو ، عن
عبد الرحمن بن جبير بن نفير ، عن
كثير بن مرة ، عن
[ ص: 336 ] nindex.php?page=showalam&ids=13عبد الله بن عمرو بن العاص ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
إن الله اتخذني خليلا كما اتخذ إبراهيم خليلا ، ومنزلي ومنزل إبراهيم في الجنة تجاهين ،
والعباس بيننا مؤمن بين خليلين . غريب وفي إسناده نظر . انتهى ما أورده
أبو نعيم ، رحمه الله .
وقال
مسلم بن الحجاج في " صحيحه " : حدثنا
أبو بكر بن أبي شيبة وإسحاق بن إبراهيم ، قالا : حدثنا
زكريا بن عدي ، حدثنا
عبيد الله بن عمرو ، حدثنا
nindex.php?page=showalam&ids=15941زيد بن أبي أنيسة ، عن
عمرو بن مرة ، عن
عبد الله بن الحارث ،
nindex.php?page=hadith&LINKID=3512229حدثني nindex.php?page=showalam&ids=193جندب بن عبد الله قال : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يموت بخمس وهو يقول : إني أبرأ إلى الله ، عز وجل ، أن يكون لي منكم خليل ; فإن الله قد اتخذني خليلا ، كما اتخذ إبراهيم خليلا ، ولو كنت متخذا من أمتي خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا ، ألا وإن من كان قبلكم يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد ، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد ، إني أنهاكم عن ذلك . وأما اتخاذه حبيبا فلم يتعرض لإسناده
أبو نعيم .
وقد قال
هشام بن عمار في كتابه " المبعث " : حدثنا
nindex.php?page=showalam&ids=17311يحيى بن حمزة الحضرمي وعثمان بن علاق القرشي ، قالا : حدثنا
nindex.php?page=showalam&ids=16562عروة بن رويم اللخمي ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :
nindex.php?page=hadith&LINKID=3512230إن الله أدرك بي الأجل المرقوم ، وأخذني المقربة ، واحتضرني احتضارا ، فنحن الآخرون ، ونحن السابقون يوم القيامة ، وأنا قائل قولا غير فخر : إبراهيم خليل الله ، وموسى صفي الله ، وأنا حبيب الله ، وأنا سيد [ ص: 337 ] ولد آدم يوم القيامة ، وإن معي لواء الحمد ، تحته كل نبي وصديق وشهيد يوم القيامة ، وأنا أول من تفتح له أبواب الجنة ، وأجارني الله عليكم من ثلاث ; أن لا يهلككم بسنة ، وأن لا يستبيحكم عدو ، وأن لا تجتمعوا على ضلالة .
وأما الفقيه
أبو محمد بن عبد الله بن حامد فتكلم على مقام الخلة بكلام طويل إلى أن قال : ويقال الخليل الذي يعبد ربه على الرغبة والرهبة ، من قوله :
إن إبراهيم لأواه حليم [ التوبة : 114 ] . من كثرة ما يقول : أوه . والحبيب الذي يعبد ربه على الرؤية والمحبة . ويقال : الخليل الذي يكون معه انتظار العطاء ، والحبيب الذي يكون معه انتظار اللقاء . ويقال : الخليل الذي يصل بالواسطة . من قوله :
وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض وليكون من الموقنين [ الأنعام : 75 ] . والحبيب الذي يصل به إليه . من قوله :
فكان قاب قوسين أو أدنى [ النجم : 9 ] . وقال
الخليل :
والذي أطمع أن يغفر لي خطيئتي يوم الدين [ الشعراء : 82 ] . وقال الله للحبيب
محمد صلى الله عليه وسلم :
ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر [ الفتح : 2 ] . وقال
الخليل :
ولا تخزني يوم يبعثون [ الشعراء : 87 ] . وقال الله للنبي صلى الله عليه وسلم
يوم لا يخزي الله النبي والذين آمنوا معه [ التحريم : 8 ] . وقال
الخليل حين ألقي في النار : حسبي الله ونعم الوكيل . وقال الله
لمحمد :
يا أيها النبي حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين [ الأنفال : 64 ] . وقال
الخليل :
إني ذاهب إلى ربي سيهدين [ الصافات : 99 ] . وقال الله
لمحمد :
ووجدك ضالا فهدى [ الضحى : 7 ] . وقال
[ ص: 338 ] الخليل :
واجعل لي لسان صدق في الآخرين [ الشعراء : 84 ] . وقال الله
لمحمد :
ورفعنا لك ذكرك [ الشرح : 4 ] . وقال
الخليل :
واجنبني وبني أن نعبد الأصنام [ إبراهيم : 35 ] . وقال الله للحبيب
إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت [ الأحزاب : 33 ] . وقال
الخليل :
واجعلني من ورثة جنة النعيم [ الشعراء : 85 ] . وقال الله
لمحمد :
إنا أعطيناك الكوثر [ الكوثر : 1 ] . وذكر أشياء أخر ، وسيأتي الحديث في " صحيح
مسلم " عن
أبي بن كعب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :
إني سأقوم مقاما يوم القيامة يرغب إلي الخلق كلهم حتى أبوهم إبراهيم الخليل . فدل على أنه أفضل منه ، إذ هو محتاج إليه في ذلك المقام ، ودل على أن
إبراهيم أفضل الخلق بعده ، ولو كان أحد أفضل من
إبراهيم بعده لذكره .
ثم قال
أبو نعيم : فإن قيل : إن
إبراهيم عليه السلام ، حجب عن نمرود بحجب ثلاثة . قيل : فقد كان كذلك ، وحجب
محمد صلى الله عليه وسلم عمن أرادوا قتله بخمسة حجب ، قال الله تعالى في أمره :
وجعلنا من بين أيديهم سدا ومن خلفهم سدا فأغشيناهم فهم لا يبصرون [ يس : 9 ] . فهذه ثلاث ، ثم قال :
وإذا قرأت القرآن جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة حجابا مستورا [ الإسراء : 45 ] . ثم قال :
فهي إلى الأذقان فهم مقمحون [ يس : 8 ] . فهذه خمسة حجب . وقد ذكر مثله سواء الفقيه
أبو محمد بن حامد ،
[ ص: 339 ] وما أدري أيهما أخذ من الآخر ؟ والله أعلم . وهذا الذي قاله غريب ، والحجب التي ذكرها
لإبراهيم ، عليه السلام ، لا أدري ما هي ، كيف وقد ألقاه في النار التي نجاه الله منها ؟ ! وأما ما ذكره من الحجب المستدل عليها بهذه الآيات ، فقد قيل : إنها جميعها معنوية لا حسية ، بمعنى أنهم مصرفون عن الحق ، لا يصل إليهم ، ولا يخلص إلى قلوبهم ، كما قال تعالى :
وقالوا قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه وفي آذاننا وقر ومن بيننا وبينك حجاب [ فصلت : 5 ] . وقد حررنا ذلك في " التفسير " وقد ذكرنا في السيرة وفي " التفسير " أن
أم جميل امرأة أبي لهب لما نزلت السورة في ذمها وذم زوجها ، ودخولهما النار ، وخسارهما ، جاءت بفهر ، وهو الحجر الكبير المستطيل ; لترجم النبي صلى الله عليه وسلم ، فانتهت إلى
أبي بكر وهو جالس عند النبي صلى الله عليه وسلم ، فلم تر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقالت
لأبي بكر : أين صاحبك ؟ فقال : وما له ؟ فقالت : إنه هجاني . فقال : وما هجاك فقالت : والله لئن رأيته لأضربنه بهذا الفهر . ثم رجعت وهي تقول : مذمما أبينا ودينه قلينا . وكذلك حجب ومنع
أبي جهل حين هم أن يطأ برجله رأس النبي صلى الله عليه وسلم وهو ساجد ، فرأى خندقا من نار وهولا عظيما ، وأجنحة الملائكة دونه ، فرجع القهقرى وهو يتقي بيديه ، فقالت له
قريش : ما لك ؟ ويحك ! فأخبرهم بما رأى ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=3512232لو أقدم لاختطفته الملائكة عضوا عضوا " . وكذلك لما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة
[ ص: 340 ] الهجرة وقد أرصدوا على مدرجته وطريقه وحوالي بيته رجالا يحرسونه ; لئلا يخرج ، ومتى عاينوه قتلوه ، فأمر
عليا فنام على فراشه ،
ثم خرج عليهم وهم جلوس ، فجعل يرش على رأس كل إنسان منهم ترابا ويقول : " nindex.php?page=hadith&LINKID=3512233شاهت الوجوه " . ثم خرج ولم يروه حتى صار هو
وأبو بكر الصديق . إلى
غار ثور ، كما بسطنا ذلك في السيرة ، وكذلك ذكرنا أن العنكبوت سد على باب الغار ; ليعمي الله عليهم مكانه .
وفي " الصحيح "
nindex.php?page=hadith&LINKID=3512234أن أبا بكر قال : يا رسول الله ، لو نظر أحدهم إلى موضع قدميه لأبصرنا . فقال : " يا أبا بكر ، ما ظنك باثنين الله ثالثهما ؟ " . وقد قال بعض الشعراء في ذلك :
نسج داود ما حمى صاحب الغا ر وكان الفخار للعنكبوت
وكذلك حجب
ومنع من سراقة بن مالك بن جعشم حين اتبعهم ، بسقوط قوائم فرسه في الأرض ، حتى أخذ منه أمانا ، كما تقدم بسطه في الهجرة .
وذكر
ابن حامد في كتابه في مقابلة إضجاع
إبراهيم ، عليه السلام ، ولده للذبح مستسلما لأمر الله تعالى ، بذل رسول الله صلى الله عليه وسلم نفسه للقتل يوم أحد وغيره حتى نال منه العدو ما نالوا ; من هشم رأسه ، وكسر ثنيته اليمنى السفلى ،
[ ص: 341 ] كما تقدم بسط ذلك في السيرة .
ثم قال : قالوا : كان
إبراهيم ، عليه السلام ، ألقاه قومه في النار فجعلها الله بردا وسلاما . قلنا : وقد أوتي رسول الله صلى الله عليه وسلم مثله ، وذلك أنه لما نزل بخيبر سمته الخيبرية ، فصير ذلك السم في جوفه بردا وسلاما إلى منتهى أجله ، والسم يحرق - إذ لا يستقر في الجوف - كما تحرق النار . قلت : وقد تقدم الحديث بذلك في فتح
خيبر . ويؤيد ما قاله أن بشر بن البراء بن معرور مات سريعا من تلك الشاة المسمومة ،
وأخبر ذراعها رسول الله صلى الله عليه وسلم بما أودع فيه من السم ، وكان قد نهش منه نهشة ، وكان السم فيه أكثر ; لأنهم كانوا يفهمون أنه ، عليه الصلاة والسلام ، يحب الذراع ، فلم يضره السم الذي حصل في باطنه بإذن الله ، عز وجل ، حتى انقضى أجله ، عليه الصلاة والسلام ، فذكر أنه وجد حينئذ من ألم ذلك السم الذي كان في تلك الأكلة ، صلوات الله وسلامه عليه . وقد ذكرنا في ترجمة
nindex.php?page=showalam&ids=22خالد بن الوليد المخزومي فاتح بلاد
الشام أنه أتي بسم فتحساه بحضرة الأعداء ; ليرهبهم بذلك ، فلم ير بأسا ، رضي الله عنه .
ثم قال
أبو نعيم : فإن قيل : فإن
إبراهيم خصم
نمرود ببرهان نبوته فبهته ، قال الله تعالى :
فبهت الذي كفر [ البقرة : 258 ] . قيل
محمد صلى الله عليه وسلم أتاه المكذب بالبعث
أبي بن خلف بعظم بال ففركه وقال :
من يحيي العظام وهي رميم [ يس : 78 ] . فأنزل الله تعالى البرهان الساطع :
قل يحييها الذي أنشأها أول مرة وهو بكل خلق عليم [ يس : 79 : ] فانصرف مبهوتا ببرهان
[ ص: 342 ] نبوته . قلت : وهذا أقطع للحجة ، وهو استدلاله على المعاد بالبداءة ، فالذي خلق الخلق بعد أن لم يكونوا شيئا مذكورا قادر على إعادتهم ، كما قال :
أوليس الذي خلق السماوات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم بلى وهو الخلاق العليم [ يس : 81 ] . أي يعيدهم كما بدأهم كما قال في الآية الأخرى :
بقادر على أن يحيي الموتى [ الأحقاف : 33 ] . وقال :
وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه [ الروم : 27 ] . هذا وأمر المعاد نظري لا فطري ، ضروري في قول الأكثرين ، فأما الذي حاج
إبراهيم في ربه فإنه معاند مكابر ، فإن وجود الصانع مذكور في الفطر ، وكل واحد مفطور على ذلك ، إلا من تغيرت فطرته ، فيصير نظريا عنده ، وبعض المتكلمين يجعل وجود الصانع من باب النظر لا الضروريات ، وعلى كل تقدير فدعواه أنه هو الذي يحيي الموتى ويميت لا يقبله عقل ولا سمع ، وكل واحد يكذبه بعقله في ذلك ، ولهذا ألزمه
إبراهيم بالإتيان بالشمس من المغرب إن كان كما ادعى :
فبهت الذي كفر والله لا يهدي القوم الظالمين [ البقرة : 258 ] . وكان ينبغي أن يذكر مع هذا أن الله تعالى سلط
محمدا صلى الله عليه وسلم على هذا المعاند لما بارز النبي صلى الله عليه وسلم يوم
أحد ، فقتله بيده الكريمة ;
طعنه بحربة فأصاب ترقوته فتدأدأ عن فرسه مرارا ، فقالوا له : ويحك ما لك ؟ ! فقال : والله إن بي لما لو كان بأهل
ذي المجاز لماتوا أجمعين ، ألم يقل : " بل أنا أقتله ؟ " والله لو بصق علي لقتلني . وكان أبي هذا ،
[ ص: 343 ] لعنه الله ، قد أعد فرسا وحربة ليقتل بها عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=3512235بل أنا أقتله إن شاء الله " . فكان كذلك يوم
أحد .
ثم قال
أبو نعيم : فإن قيل : فإن
إبراهيم ، عليه السلام ، كسر أصنام قومه غضبا لله . قيل :
nindex.php?page=hadith&LINKID=3512236فإن محمدا صلى الله عليه وسلم كسر ثلاثمائة وستين صنما نصبت حول الكعبة فأشار إليهن فتساقطن . ثم روي من طريق
عبد الله العمري ، عن
نافع ،
nindex.php?page=hadith&LINKID=3512237عن ابن عمر قال : وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة وحول البيت ثلاثمائة وستون صنما قد ألزقها الشيطان بالرصاص والنحاس ، فكان كلما دنا منها بمخصرته تهوي من غير أن يمسها ، ويقول : " جاء الحق وزهق الباطل ، إن الباطل كان زهوقا " . فتساقط لوجوهها ، ثم أمر بهن فأخرجن إلى المسيل ، وهذا أظهر وأجلى من الذي قبله ، وقد ذكرنا هذا في أول دخول النبي صلى الله عليه وسلم
مكة عام الفتح بأسانيده وطرقه من الصحاح وغيرها ، بما فيه كفاية . وقد ذكر غير واحد من علماء السير أن الأصنام تساقطت أيضا ليلة مولده الكريم ، وهذا أبلغ وأقوى في المعجز من مباشرة كسرها ، وقد تقدم أن نار
فارس التي كانوا يعبدونها خمدت أيضا ليلتئذ ، ولم تخمد قبل ذلك بألف عام ، وأنه سقط من شرفات قصر كسرى أربع عشرة شرفة ، مؤذنة بزوال دولتهم الكافرة بعد هلاك أربعة عشر من
[ ص: 344 ] ملوكهم في أقصر مدة ، وكان لهم في الملك قريب من ثلاثة آلاف سنة .
وأما إحياء الطيور الأربعة
لإبراهيم ، عليه السلام ، فلم يذكره
أبو نعيم ولا
ابن حامد ، وسيأتي في إحياء الموتى على يد
عيسى ، عليه السلام ، ما وقع من المعجزات المحمدية من هذا النمط ما هو مثل ذلك وأعلى من ذلك ، كما سيأتي التنبيه عليه إذا انتهينا إليه ; من إحياء أموات بدعوات من أمته ، وحنين الجذع ، وتسليم الحجر والشجر والمدر عليه ، وتكليم الذراع له ، وغير ذلك . وأما قوله تعالى :
وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض وليكون من الموقنين [ الأنعام : 75 ] . والآيات بعدها ، فقد قال الله تعالى :
سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا إنه هو السميع البصير [ الإسراء : 1 ] . وقد ذكر ذلك
ابن حامد فيما وقفت عليه بعد ، وقد ذكرنا في أحاديث الإسراء من كتابنا هذا ، ومن " التفسير " ما شاهده رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة أسري به من الآيات فيما بين مكة إلى بيت المقدس ، وفيما بين ذلك إلى سماء الدنيا ، ثم ما عاين من الآيات في السماوات السبع وما فوق ذلك ، وسدرة المنتهى ، وجنة المأوى ، والنار التي هي بئس المصير والمثوى . وقال عليه أفضل الصلاة والسلام في حديث المنام - وقد رواه
أحمد والترمذي وصححه ، وغيرهما - : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=3512238فتجلى لي كل شيء وعرفت " .
وذكر
ابن حامد في مقابلة ابتلاء الله
يعقوب ، عليه السلام ، بفقد ولده
[ ص: 345 ] يوسف ، عليه السلام ، وصبره واستعانته ربه ، عز وجل ،
موت إبراهيم ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم وصبره عليه ، وقوله : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=3512239تدمع العين ويحزن القلب ، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا ، وإنا بك يا إبراهيم لمحزونون " . قلت : وقد ماتت بناته الثلاثة ;
رقية وأم كلثوم ، وزينب ، وقتل عمه
حمزة أسد الله وأسد رسوله يوم أحد ، فصبر واحتسب .
وذكر في مقابلة حسن
يوسف ، عليه السلام ، ما ذكر من جمال رسول الله صلى الله عليه وسلم ومهابته وحلاوته شكلا ونطقا وهديا ، ودلا وسمتا ، كما تقدم في شمائله من الأحاديث الدالة على ذلك ، كما قالت
nindex.php?page=showalam&ids=10718الربيع بنت معوذ : لو رأيته لرأيت الشمس طالعة .
وذكر في مقابلة ما ابتلي به
يوسف ، عليه السلام ، من الفرقة والغربة ، هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم من
مكة إلى
المدينة ، ومفارقته وطنه وأهله وأصحابه الذين كانوا بها .