[ ص: 613 ] بسم الله الرحمن الرحيم سنة أربع عشرة من الهجرة .
استهلت هذه السنة ،
والخليفة عمر بن الخطاب ، يحث الناس ويحرضهم على جهاد أهل العراق ; وذلك لما بلغه من قتل
أبي عبيد يوم الجسر ، وانتظام شمل
الفرس ، واجتماع أمرهم على
nindex.php?page=showalam&ids=16848يزدجرد الذي أقاموه من بيت الملك ، ونقض أهل الذمة
بالعراق عهودهم ، ونبذهم المواثيق التي كانت عليهم ، وآذوا المسلمين وأخرجوا العمال من بين أظهرهم ، وقد كتب
عمر إلى من هنالك من الجيش أن يتبرزوا من بين أظهرهم إلى أطراف البلاد .
قال
ابن جرير ، رحمه الله : وركب
عمر ، رضي الله عنه في أول يوم من المحرم هذه السنة في الجيوش من
المدينة ، فنزل على ماء يقال له :
صرار . فعسكر به عازما على غزو
العراق بنفسه ، واستخلف على
المدينة علي بن أبي طالب ، واستصحب معه
عثمان بن عفان وسادات الصحابة ، ثم عقد مجلسا لاستشارة الصحابة فيما عزم عليه ، ونودي : إن الصلاة جامعة . وقد أرسل إلى
علي ، فقدم من
المدينة ، ثم استشارهم ، فكلهم وافقه على الذهاب إلى
العراق ، إلا
عبد الرحمن بن عوف ، فإنه قال له : إني أخشى إن كسرت أن تضعف المسلمين في سائر أقطار الأرض ، وإني أرى أن تبعث رجلا ، وترجع أنت إلى
المدينة . فأرفأ
عمر [ ص: 614 ] والناس عند ذلك ، واستصوبوا رأي
ابن عوف . فقال
عمر : فمن ترى أن نبعث إلى
العراق ؟ فقال : قد وجدته . قال : ومن هو ؟ قال : الأسد في براثنه
nindex.php?page=showalam&ids=37سعد بن مالك الزهري . فاستجاد قوله وأرسل إلى
سعد ، فأمره على
العراق ، وأوصاه فقال : يا
سعد بني وهيب ، لا يغرنك من الله أن قيل : خال رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبه . فإن
الله لا يمحو السيئ بالسيئ ، ولكن يمحو السيئ بالحسن ، وإن
الله ليس بينه وبين أحد نسب إلا بطاعته ، فالناس شريفهم ووضيعهم في ذات الله سواء ; الله ربهم ، وهم عباده ، يتفاضلون بالعافية ويدركون ما عند الله بالطاعة ، فانظر الأمر الذي رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم منذ بعث إلى أن فارقنا فالزمه ; فإنه الأمر ، هذه عظتي إياك ، إن تركتها ورغبت عنها حبط عملك وكنت من الخاسرين . ولما أراد فراقه قال له : إنك ستقدم على أمر شديد ، فالصبر الصبر على ما أصابك ونابك تجمع لك خشية الله ، واعلم أن
خشية الله تجتمع في أمرين ; في طاعته واجتناب معصيته ، وإنما طاعة من أطاعه ببغض الدنيا وحب الآخرة ، وإنما عصيان من عصاه بحب الدنيا وبغض الآخرة ،
وللقلوب حقائق ينشئها الله إنشاء ، منها السر ومنها العلانية ; فأما العلانية فأن يكون حامده وذامه في الحق سواء ، وأما السر فيعرف بظهور الحكمة من قلبه على لسانه ، وبمحبة الناس ، فلا تزهد في التحبب ، فإن النبيين قد سألوا محبتهم ، وإن
الله إذا أحب عبدا حببه ، وإذا أبغض عبدا بغضه ، فاعتبر منزلتك عند الله بمنزلتك عند الناس . قالوا : فسار
سعد نحو
العراق في أربعة آلاف ; ثلاثة آلاف
[ ص: 615 ] من أهل
اليمن ، وألف من سائر الناس . وقيل : في ستة آلاف . وشيعهم
عمر من
صرار إلى
الأعوص ، وقام
عمر في الناس خطيبا هنالك فقال : إن الله إنما ضرب لكم الأمثال ، وصرف لكم القول ليحيي به القلوب ، فإن
القلوب ميتة في صدورها حتى يحييها الله ، من علم شيئا فلينتفع به ، فإن
للعدل أمارات وتباشير ; فأما الأمارات فالحياء والسخاء والهين واللين ، وأما التباشير فالرحمة ، وقد جعل الله لكل أمر بابا ، ويسر لكل باب مفتاحا ; فباب العدل الاعتبار ، ومفتاحه الزهد ، والاعتبار
ذكر الموت والاستعداد بتقديم الأعمال ، والزهد أخذ الحق من كل أحد قبله حق والاكتفاء بما يكفيه من الكفاف ، فإن من لم يكفه الكفاف لم يغنه شيء ، إني بينكم وبين الله ، وليس بيني وبينه أحد ، وإن الله قد ألزمني دفع الدعاء عنه ، فأنهوا شكاتكم إلينا ، فمن لم يستطع فإلى من يبلغناها نأخذ له الحق غير متعتع . ثم سار
سعد إلى
العراق ، ورجع
عمر بمن معه من المسلمين إلى
المدينة ، ولما انتهى
سعد إلى
نهر زرود ، ولم يبق بينه وبين أن يجتمع
بالمثنى بن حارثة إلا اليسير ، وكل منهما مشتاق إلى صاحبه ، انتقض جرح
المثنى بن حارثة الذي كان جرحه يوم الجسر ، فمات رحمه الله ورضي الله عنه ، واستخلف على الجيش
بشير بن الخصاصية ، ولما بلغ
سعدا موته ترحم عليه وتزوج زوجته
سلمى ، ولما وصل
سعد إلى محلة الجيوش انتهت إليه رياستها وإمرتها ، ولم يبق
[ ص: 616 ] بالعراق أمير من سادات العرب إلا تحت أمره ، وأمده
عمر بأمداد أخر حتى اجتمع معه
يوم القادسية ثلاثون ألفا ، وقيل : ستة وثلاثون . وقال
عمر : والله لأرمين ملوك العجم بملوك العرب . وكتب إلى
سعد أن يجعل الأمراء على القبائل ، والعرفاء على كل عشرة عريفا على الجيوش ، وأن يواعدهم إلى
القادسية ، ففعل ذلك
سعد ; عرف العرفاء ، وأمر على القبائل ، وولى على الطلائع ، والمقدمات ، والمجنبات والساقات ، والرجالة ، والركبان ، كما أمر أمير المؤمنين
عمر .
قال
سيف بإسناده عن مشايخه قالوا : وجعل
عمر على قضاء الناس
عبد الرحمن بن ربيعة الباهلي ذا النور ، وجعل إليه الأقباض وقسمة الفيء ، وجعل داعية الناس وقاصهم
سلمان الفارسي ، وجعل الكاتب
زياد بن أبي سفيان . قالوا : وكان في هذا الجيش كله من الصحابة ثلاثمائة وبضعة عشر صحابيا ، منهم بضعة وسبعون بدريا ، وكان فيه سبعمائة من أبناء الصحابة ، رضى الله عنهم .
وبعث
عمر كتابه إلى
سعد يأمره بالمبادرة إلى
القادسية ،
والقادسية باب
فارس في الجاهلية ، وأن يكون منزله بين الحجر والمدر ، وأن يأخذ الطرق والمسالك على
فارس ، وأن يبدروهم بالضرب والشدة ، ولا يهولنك كثرة عددهم وعددهم ،
[ ص: 617 ] فإنهم قوم خدعة مكرة ، فإن أنتم صبرتم لعدوكم واحتسبتم لقتاله ونويتم الأمانة رجوت أن تنصروا عليهم ، ثم لم يجتمع لهم شملهم أبدا ، إلا أن يجتمعوا وليست معهم قلوبهم ، وإن كانت الأخرى فارجعوا إلى ما وراءكم حتى تصلوا إلى الحجر فإنكم عليه أجرأ ، وإنهم عنه أجبن وبه أجهل ، حتى يأتي الله بالفتح عليهم ويرد لكم الكرة ، وأمره بمحاسبة نفسه وموعظة جيشه ، وأمرهم بالنية الحسنة والصبر ، فإن
النصر يأتي من الله على قدر النية ، والأجر على قدر الحسبة ، وسلوا الله العافية ، وأكثروا من قول : لا حول ولا قوة إلا بالله . واكتب إلي بجميع أحوالكم وتفاصيلها ، وكيف تنزلون وأين يكون منكم عدوكم ، واجعلني بكتبك إلي كأني أنظر إليكم ، واجعلني من أمركم على الجلية ، وخف الله وارجه ولا تدل بشيء ، واعلم أن الله قد توكل لهذا الأمر بما لا خلف له ، فاحذر أن يصرفه عنك ويستبدل بكم غيركم .
فكتب إليه
سعد يصف له كيفية تلك المنازل والأراضي بحيث كأنه يشاهدها ، وكتب إليه يخبره بأن الفرس قد جردوا لحربه
رستم وأمثاله ، فهم يطلبوننا ونحن نطلبهم ، وأمر الله بعد ماض ، وقضاؤه مسلم لنا إلى ما قدر لنا وعلينا ، فنسأل الله خير القضاء وخير القدر في عافية .
[ ص: 618 ] وكتب إليه
عمر : قد جاءني كتابك وفهمته ، فإذا لقيت عدوك ومنحك الله أدبارهم ، فإنه قد ألقي في روعي أنكم ستهزمونهم ، فلا تشكن في ذلك ، فإذا هزمتهم فلا تنزع عنهم حتى تقتحم عليهم المدائن ; فإنه خرابها ، إن شاء الله . وجعل
عمر يدعو
لسعد خاصة وله وللمسلمين عامة .
ولما بلغ
سعد العذيب اعترض المسلمين جيش للفرس مع
شيرزاذ بن آزاذويه ، فغنموا مما معه شيئا كثيرا ، ووقع منهم موقعا كبيرا ، فخمسها
سعد ، وقسم أربعة أخماسها في الناس ، واستبشر الناس بذلك وفرحوا وتفاءلوا ، وأفرد
سعد سرية تكون حياطة لمن معهم من الحريم ، على هذه السرية
غالب بن عبد الله الليثي .