عبد الرحمن بن معاوية بن هشام
ابن عبد الملك بن مروان بن الحكم بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف ، أمير الأندلس وسلطانها ، أبو المطرف الأموي المرواني ، المشهور بالداخل ، لأنه حين انقرضت خلافة بني أمية من الدنيا ، وقتل
مروان الحمار ، وقامت دولة
بني العباس ، هرب هذا ، فنجا ودخل إلى
الأندلس فتملكها .
وذلك أنه فر من
مصر في آخر سنة اثنتين وثلاثين إلى أرض
برقة ، فبقي بها خمس سنين ، ثم دخل
المغرب ، فنفذ مولاه
بدرا يتجسس له ، فقال للمضرية : لو وجدتم رجلا من بيت الخلافة ، أكنتم تبايعونه ؟ قالوا : وكيف لنا بذلك ؟ فقال : هذا
عبد الرحمن بن معاوية ، فأتوه فبايعوه ، فتملك
الأندلس ثلاثا وثلاثين سنة ، وبقي الملك في عقبه إلى سنة أربع مائة . ولم يتلقب بالخلافة ، لا هو ولا أكثر ذريته ، إنما كان يقال : الأمير فلان . وأول من تلقب بأمير المؤمنين منهم :
الناصر لدين الله ، في حدود العشرين وثلاث مائة ، عندما بلغه ضعف خلفاء العصر ، فقال : أنا أولى بإمرة المؤمنين .
[ ص: 245 ] دخل
عبد الرحمن بن معاوية الأندلس في سنة ثمان وثلاثين . ومولده بأرض
تدمر سنة ثلاث عشرة ومائة في خلافة جده .
وأما
أبو القاسم بن بشكوال الحافظ ، فقال : فر من المشرق عند انقراض ملكهم ، هو وأخوان أصغر منه ، وغلام لهم ، فلم يزالوا يخفون أنفسهم ، والجعائل قد جعلت عليهم ، والمراصد ، فسلكوا حتى وصلوا
وادي بجاية فبعثوا الغلام يشتري لهم خبزا فأنكرت الدراهم ، وقبض على الغلام ، وضرب فأقر ، فأركبوا خيلا ، فرأى
عبد الرحمن الفرسان ، فتهيأ للسباحة ، وقال لأخويه : اسبحا معي ، فنجا هو وقصرا ، فأشاروا إليهما بالأمان ، فلما حصلا في أيديهم ذبحوهما ، وأخوهما ينظر من هناك ، ثم آواه شيخ كريم العهد ، وقال : لأسترنك جهدي ، فوقع عليه التفتيش
ببجاية ، إلى أن جاء الطالب إلى دار الشيخ ، وكان له امرأة ضخمة ، فأجلسها تتسرح ، وأخفى
عبد الرحمن تحت ثيابها ، وصيح الشيخ : يا سبحان الله ، الحرم ، فقالوا : غط أهلك ، وخرجوا ، وستره الله مدة ، ثم دخل
الأندلس في قارب سماك ، فحصل بمدينة
المنكب .
وكان قواد
الأندلس وجندها موالي
بني أمية ، فبعث إلى قائد ، فأعلمه بشأنه ، فقبل يديه وفرح به ، وجعله عنده ، ثم قال : جاء الذي كنا نتحدث أنه إذا انقرض ملك
بني أمية بالمشرق ، نبغ منهم
عبد الرحمن بالمغرب ، ثم كتب إلى الموالي ، وعرفهم ، ففرحوا وأصفقوا على بيعته ، واستوثقوا من
[ ص: 246 ] أمراء العرب ، وشيوخ
البربر ، فلما استحكم الأمر ، أظهروا بيعته بعد ثمانية أشهر ، وذلك في ربيع الآخر سنة ثمان وثلاثين ومائة ، فقصد
قرطبة ، ومتولي
الأندلس يومئذ :
يوسف الفهري ، فاستعد جهده ، فالتقوا ، فانهزم
يوسف ، ودخل
عبد الرحمن بن معاوية الداخل قصر
قرطبة يوم الجمعة ، يوم الأضحى من العام ، ثم حاربه
يوسف ثانيا ، ودخل
قرطبة ، واستولى عليها ، وكر
عبد الرحمن عليه ، فهرب
يوسف والتجأ إلى
غرناطة ، فامتنع
بإلبيرة ، فنازله
عبد الرحمن وضيق عليه ، ورأى
يوسف اجتماع الأمر
للداخل ، فنزل بالأمان بمحضر من قاضي
الأندلس يحيى بن يزيد التجيبي ، وكان رجلا صالحا ، استعمله على القضاء
عمر بن عبد العزيز ، فزاده
الداخل إجلالا وإكراما ، فبقي على قضائه إلى أن مات سنة اثنتين وأربعين ومائة ، فاستعمل على القضاء
معاوية بن صالح ، فلما أراد
معاوية هذا ، الحج ، وجهه
الداخل إلى أختيه
بالشام ، وعمته
رملة بنت هشام ، ليعمل الحيلة في إدخالهن إلى عنده ، وأنشد عند ذلك :
أيها الركب الميمم أرضي أقر من بعضي السلام لبعضي
إن جسمي كما علمت بأرض وفؤادي ومالكيه بأرض
قدر البين بيننا فافترقنا فطوى البين عن جفوني غمضي
وقضى الله بالفراق علينا فعسى باجتماعنا سوف يقضي
فلما وصل إليهن ، قلن : السفر ، لا نأمن غوائله على القرب ، فكيف وقد حالت بيننا بحار ومفاوز ، ونحن حرم ، وقد آمننا هؤلاء القوم على معرفتهم
[ ص: 247 ] بمكاننا منه ، فحسبنا أن نتملى المسرة بعزة وعافية . فانصرف بكتابهما ، وبعثا إليه بأعلاق نفيسة من ذخائر الخلافة ، فسر بها الأمير
عبد الرحمن ، وقضى لرأيهما بالرجاحة ، ثم بعد وصل آخر من
الشام بكتاب منهن ، وبهدايا وتحف ، منها رمان من رصافة جدهم
هشام ، فسر به الداخل ، وكان بحضرته
سفر بن عبيد الكلاعي من
أهل الأردن ، فأخذ من الرمان ، وزرع من عجمه بقريته حتى صار شجرا ، وزاد حسنا ، وجاء بثمره إلى الأمير ، وكثر هناك ، ويعرف بالسفري ، وغرس منه
بمنية الرصافة . ورأى
الداخل نخلة مفردة بالرصافة ، فهاجت شجنه ، وتذكر وطنه فقال :
تبدت لنا وسط الرصافة نخلة تناءت بأرض الغرب عن بلد النخل
فقلت شبيهي في التغرب والنوى وطول انثنائي عن بني وعن أهلي
نشأت بأرض أنت فيها غريبة فمثلك في الإقصاء والمنتأى مثلي
سقتك عوادي المزن من صوبها الذي يسح وتستمري السماكين بالوبل
[ ص: 248 ]
قال
ابن حيان : وحين افتتح المسلمون
قرطبة شاطروا أهلها كنيستهم العظمى ، كما فعل
أبو عبيدة وخالد بأعاجم
دمشق ، فابتنوا فيه مسجدا ، وبقي الشطر بأيدي
الروم إلى أن كثرت عمارة
قرطبة ، وتداولتها بعوث العرب ، فضاق المسجد ، وعلق منه سقائف ، وصار الناس ينالون مشقة لقصر السقائف إلى أن أذخر الله فيه الأجر لصحيفة
الداخل ، وابتاع الشطر الثاني من
النصارى بمائة ألف دينار ، وقبضوها على ملأ من الناس ، ورضوا بعد تمنع ، وعمل هذا الجامع الذي هو فخر الأرض ، وشرفها من مال الأخماس ، وكمل على مراده ، وكان تأسيسه في سنة سبعين ومائة ، فتمت أسواره في عام . وبلغ الإنفاق فيه إلى ثمانين ألف دينار ، فقال
دحية البلوي :
وأبرز في ذات الإله ووجهه ثمانين ألفا من لجين وعسجد
وأنفقها في مسجد أسه التقى ومنحته دين النبي محمد
ترى الذهب الناري بين سموكه يلوح كلمع البارق المتوقد
وقال أيضا :
بنيت لأهل الدين بالغرب مسجدا ليركع للرحمن فيه ويسجدا
جمعت له الأكفاء من كل صانع فقام بمن الله بيتا ممجدا
فما لبثوه غير حول وما خلا إلى أن أقاموه منيعا مشيدا
[ ص: 249 ] وزخرف بالأصباغ منه سقوفه كما تمم الوشاء بردا مقصدا
وبالذهب الرومي موه وجهه فبورك من بان لذي العرش مسجدا
وكملت أبهاء الجامع سبعة أبهاء ، ثم زاد من بعده حفيده
الحكم الربضي بهوين ، ثم زاد
عبد الرحمن بن الحكم بهوين ، فصارت أحد عشر بهوا ، ثم زاد
المنصور بن أبي عامر ثمانية أبهاء ، وعمل
جامع إشبيلية وسورها بعد المائتين .
قال
ابن بشكوال : كان عدد القومة لجامع
قرطبة في مدة
المنصور وقبلها ثلاث مائة رجل .
وقال
ابن مزين : في قبلته انحراف . وقد ركب
الحكم المستنصر بالله مع الوزراء والقاضي
منذر البلوطي وقد هم بتحريف القبلة ، فقالوا : يا أمير المؤمنين ، قد صلى بهذه القبلة خيار الأئمة والتابعون ، وإنما فضل من فضل بالاتباع ، وأمير المؤمنين أولى من اتبع . فترك القبلة بحالها .
قال
ابن حيان : بلغ الإنفاق في المنبر الحكمي إلى خمسة وثلاثين ألف دينار وسبع مائة دينار ونيف ، وقام من ستة وثلاثين ألف وصلة من الأبنوس ، والصندل ، والعناب ، والبقم في مدة أربع سنين ، وأول من خطب عليه
منذر بن سعيد البلوطي ، وبلغت أعمدة
جامع قرطبة إلى ألف وأربع مائة سارية وتسع سواري ، وعمل
الناصر صومعة ارتفاعها من الأرض إلى موقف المؤذن أربعة وخمسون ذراعا ، وعرضها ثمانية عشر ذراعا ، وبأعلى ذروتها سفود طويل فيه ثلاث رمانات : إحداهما فضة ، والأخرى ذهب إبريز ، وفوقها سوسنة ذهب مسدسة ، فهذه المنارة إحدى عجائب
[ ص: 250 ] الدنيا ، وذرع المحراب إلى داخل ثمانية أذرع ونصف ، ومن الشرق إلى الغرب سبعة أذرع ونصف ، وارتفاع قبوه ثلاثة عشر ذراعا ونصف ، وذرع المقصورة من الشرق إلى الغرب خمسة وسبعون ذراعا ، وعرضها من جدار الخشب إلى القبلة اثنان وعشرون ذراعا ، وطول الجامع ثلاث مائة وثلاثون ذراعا ، ومن الشرق إلى الغرب مائتان وخمسون ذراعا .
وأما الإسلام فكان عزيزا منيعا
بالأندلس في دولة
الداخل . فانظر إلى هذا الأمان الذي كتب عنه
للنصارى :
بسم الله الرحمن الرحيم
كتاب أمان ورحمة ، وحقن دماء وعصمة ، عقده الأمير الأكرم الملك المعظم
عبد الرحمن بن معاوية ، ذو الشرف الصميم ، والخير العميم ، للبطارقة والرهبان ، ومن تبعهم من سائر البلدان ، أهل
قشتالة وأعمالها ، ما داموا على الطاعة في أداء ما تحملوه ، فأشهد على نفسه أن عهده لا ينسخ ما أقاموا على تأدية عشرة آلاف أوقية من الذهب ، وعشرة آلاف رطل من الفضة ، وعشرة آلاف رأس من خيار الخيل ، ومثلها من البغال ، مع ذلك ألف درع وألف بيضة ، ومن الرماح الدردار مثلها في كل عام ، ومتى ثبت عليهم النكث بأسير يأسرونه ، أو مسلم يغدرونه ، انتكث ما عوهدوا عليه ، وكتب لهم هذا الأمان بأيديهم إلى خمس سنين ، أولها صفر عام اثنين وأربعين ومائة .
وذكر
nindex.php?page=showalam&ids=13359ابن عساكر بإسناد له ، أن
عبد الرحمن لما عدى إلى الجزيرة فنزلها ، اتبعه أهلها ، ثم مضى إلى
إشبيلية ، فاتبعه أهلها ، ثم مضى إلى
[ ص: 251 ] قرطبة ، فاتبعه من فيها ، فلما رأى
يوسف الفهري العساكر قد أظلته ، هرب إلى دار الشرك فتحصن هناك ، وغزاه
عبد الرحمن بعد ذلك ، فوقعت نفرة في عسكره ، فانهزم ، ورد
عبد الرحمن بلا حرب ، وجعل لمن أتاه برأس
يوسف جعلا ، فأتاه رجل من أصحاب
يوسف برأسه .
وقال
nindex.php?page=showalam&ids=14171الحميدي : دخل
عبد الرحمن الأندلس ، فقامت معه اليمانية ، وحارب
يوسف بن عبد الرحمن الفهري متولي
الأندلس ، فهزمه ، وكان
عبد الرحمن من أهل العلم على سيرة جميلة من العدل .
وقال
أبو المظفر الأبيوردي في أخبار
بني أمية : كان الناس يقولون : ملك الأرض ابنا بربريتين - يعني :
عبد الرحمن والمنصور .
وكان
المنصور يقول عن
عبد الرحمن بن معاوية : ذاك
صقر قريش ، دخل
المغرب وقد قتل قومه ، فلم يزل يضرب العدنانية بالقحطانية حتى ملك .
وقال
سعيد بن عثمان اللغوي المتوفى سنة أربع مائة : كانت
بقرطبة جنة اتخذها
عبد الرحمن بن معاوية ، كان فيها نخلة أدركتها .
وفي ذلك يقول
عبد الرحمن بن معاوية :
يا نخل أنت غريبة مثلي في الغرب نائية عن الأهل
فابكي ، وهل تبكي ملمسة عجماء لم تطبع على خبل
لو أنها تبكي إذن لبكت ماء الفرات ومنبت النخل
[ ص: 252 ] لكنها ذهلت وأذهلني بغضي بني العباس عن أهلي
وقد ولي على
الأندلس عبد الرحمن بن عبد الله الغافقي في أيام
عمر بن عبد العزيز ، فبنى تلك القناطر
بقرطبة بقبلي القصر والجامع ، وهي ثمانية عشر قوسا ، طولها ثمان مائة باع ، وعرضها سوى ستائرها عشرون باعا ، وارتفاعها ستون ذراعا ، وهي من عجائب الدنيا .
ولما انقرضت دولة
بني أمية اتفق الناس على تقديم
يوسف بن عبد الرحمن بن أبي عبيدة بن عقبة بن نافع الفهري ، فعمرت البلاد في أيامه ، واتسعت ، فلما أراد الله ظهور ملك
بني أمية بالأندلس ، ذلت
لعبد الرحمن قبائل العرب ، وسلم له الأمر ، وقتل
يوسف الفهري بوادي الزيتون ، وخطب
لعبد الرحمن بجميع الأمصار بها ، وشيد
قرطبة ، وغزا عدة غزوات .
من ذلك : غزوة
قشتالة ، جاز إليها من
نهر طليطلة ، وفرت
الروم أمامه ، وتعلقت بالحبال ، فلم يزل حتى وصل مدينة
برنيقة ، من مملكة
قشتالة ، فنزل عليها ، وأمر برفع الخيام ، وشرع في البناء ، وأخذ الناس يبنون ، فسلموا إليه بالأمان عند إياسهم من النجدة ، وخرجوا بثيابهم فقط ، وما يزودهم ، ثم كتب لأهل
قشتالة ذلك الأمان الذي تقدم ، وهو بخط
الوزير بشر بن سعيد الغافقي . ولما صفا الأمر
لعبد الرحمن بعد مقتل
عثمان بن حمزة ، من ولد
عمر [ ص: 253 ] بن الخطاب ، وذلك بعد سبعة أعوام من تمنعه
بطليطلة ، عظم سلطانه ، وامتدت أيامه وعاش ستين سنة ، ثم توفي سنة اثنتين وسبعين ومائة ، وأيست
بنو العباس من مملكة
الأندلس لبعد الشقة .