الخبيث
هو طاغية الزنج علي بن محمد بن عبد الرحمن العبدي ، من عبد القيس .
افترى ، وزعم أنه من ولد
زيد بن علي العلوي ، وكان منجما طرقيا ذكيا ، حروريا ماكرا ، داهية منحلا ، على رأي فجرة
الخوارج ، يتستر
[ ص: 130 ] بالانتماء إليهم ، وإلا فالرجل دهري فيلسوف زنديق .
ظهر
بالبصرة واستغوى عبيد الناس وأوباشهم ، فتجمع له كل لص ومريب ، وكثروا ، فشد بهم على أهل
البصرة ، وتم له ذلك ، واستباحوا البلد ، واسترقوا الذرية ، وملكوا ، فانتدب لحربهم عسكر
المعتمد ، فالتقى الفريقان ، وانتصر الخبيث ، واستفحل بلاؤه ، وطوى البلاد ، وأباد العباد ، وكاد أن يملك
بغداد ، وجرت بينه وبين الجيش عدة مصافات وأنشأ مدينة سماها :
المختارة ، في غاية الحصانة ، وزاد جيشه على مائة ألف ، ولولا زندقته ومروقه لاستولى على الممالك .
وقد سقت من فتنته في دولة
المعتمد ، وكانت أيامه أربع عشرة سنة .
قال
نفطويه : كان أولا بواسط ، وربما كتب العوذ ، فأخذه
محمد بن أبي عون ، فحبسه ، ثم أطلقه ، فما لبث أن خرج واستغوى الزنج -يعني : عبيد الناس والذين يكسحون ويزبلون -فصار من أمره ما صار ، وخافته الخلفاء ، ثم أظفرهم الله به بعد حروب تشيب النواصي .
وقتل -ولله الحمد- في سنة سبعين ومائتين ، في صفر ، وله ثمان وأربعون سنة .
ولو أفردت أخباره ووقائعه لبلغت مجلدا . وكان مفرط الشجاعة ،
[ ص: 131 ] جريئا داهية ، قد استوعب
ابن النجار سيرته .
رئي أبوه أنه بال في مسجد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بولة أحرقت نصف الدنيا .
وكانت أم الخبيث تقول : لم يدع ابني أحدا عنده علم
بالري حتى خالطهم ، ثم خرج إلى
خراسان ، فغاب عني سنتين ، وجاء ، ثم غاب عني غيبته التي خرج فيها ، فورد علي كتابه من
البصرة ، وبعث إلي بمال ، فلم أقبله ، لما صح عندي من سفكه للدماء ، وخرابه للمدن .
قلت : وكان أبوه داهية شيطانا كولده . فقال
علي : مرضت وأنا غلام ، فجلس أبي يعودني ، وقال لأمي : ما خبره ؟ قالت : يموت . قال : فإذا مات ، من يخرب
البصرة ؟ قال : فبقي ذاك في قلبي .
وقيل : مات أبوه
بسامراء سنة إحدى وثلاثين ومائتين . فقال علي الشعر ، ومدح به ، وصار كاتبا ، ودخل في ادعاء الإمامة وعلم المغيبات ، وخاف ، فنزح من
سامراء إلى
الري لميراث في سنة تسع وأربعين .
قلت : بعد مصرع
المتوكل وابنه ، وأولئك الخلفاء المستضعفين المقتولين ، نقض أمر الخلافة جدا ، وطمع كل شيطان في التوثب ، وخرج الصفار
بخراسان واتسعت ممالكه ، وخرج هذا الخبيث
بالبصرة ، وفعل ما فعل . وهاجت الروم ، وعظم الخطب . ثم بعد سنوات ثارت
القرامطة والأعراب ، وظهر
بالمغرب عبيد [ ص: 132 ] الله ، الملقب بالمهدي ، وتملك . ثم دامت الدولة في ذرية
الباطنية إلى دولة
نور الدين -رحمه الله .
فادعى بعد الخمسين هذا الخبيث
بهجر أنه
علي بن محمد بن الفضل بن حسين بن عبد الله بن عباس بن علي بن أبي طالب . ودعا إلى نفسه ، فمال إليه رئيس
هجر ، ونابذه قوم ، فاقتتلوا ، فتحول إلى الأحساء ، واعتصم
ببني الشماس ، وإنما قصد
البحرين لغباوة أهلها ، ورواج المخاريق عليهم ، فحل منهم محل نبي ، وصدقوه بمرة ، ثم تنكروا له لدبره ، فشخص إلى البادية يستغوي الأعاريب بنفوذ حيله ، وشعوذته ، واعتقدوا فيه أنه يعلم منطق الطير .
وجعل يغير على النواحي ، ثم تمت له وقعة كبيرة ، هزم فيها وقتل كبراء أتباعه ، وكرهته العرب ، فقصد البصرة ، فنزل في
بني ضبيعة ، والتف عليه جماعة في سنة أربع وخمسين ، وطمع في ميل
البصريين إليه ، فأمر أربعة ، فدخلوا الجامع يدعونهم إلى طاعته ، فلم يجبه أحد ، بل وثب الجند إليهم ، فهرب ، وأخذ أتباعه وابنه الكبير وأمه وبنته ، فحبسوا .
وذهب إلى
بغداد فأقام سنة يستغوي الناس ويضلهم ، فاستمال عدة من الحاكة بمخاريقه ، والجهلة أسبق شيء إلى أرباب الأحوال الشيطانية ،
[ ص: 133 ] ومات متولي
البصرة ، وهاجت الأعراب بها وفتحوا السجون ، فتخلص قومه فبادر إلى
البصرة في رمضان سنة خمس ، وحوله جماعة ، واستجاب له عبيد زنوج للناس ، فأفسدهم وجسرهم ، وعمد إلى جريدة ، فكتب على خرقة عليها :
إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة وكتب اسمه .
وخرج بهم في السحر لليلتين بقيتا من رمضان في ألف نفس ، فخطبهم ، وقال : أنتم الأمراء وستملكون . . . ووعدهم ، ومناهم ، ثم طلب أستاذيهم ، وقال : أردت ضرب أعناقكم لأذيتكم لهؤلاء الغلمان . قالوا : هؤلاء أبقوا ولا يبقون عليك ولا علينا . فأمر غلمانهم ، فبطحوهم ، وضربوا كل واحد خمسمائة ، وحلفهم بالطلاق أن لا يعلموا أحدا بموضعه .
وقيل : كان ثم خمسة عشر ألف عبد يعملون في أموال مواليهم ، فأنذروا ساداتهم بما جرى ، فقيدوهم ، فأقبل حزبه ، فكسروا قيودهم ، وضموهم إليه ، فلما كان يوم الفطر ركز علمه وصلى بهم العيد ، وخطبهم ، وأعلمهم أن الله يريد أن يمكن لهم ويملكهم ، وحلف لهم على ذلك ثم نزل ، فصلى بهم .
ثم لم يزل ينهب ويغير ، ويكثر جمعه من كل مائق وقاطع طريق ، حتى استفحل أمره ، وعظمت فتنته ، وغنم الخيول والسلاح ، والأمتعة والأموال والمواشي . وصار من الملوك . وصار كلما حاربه عسكر وانهزموا ،
[ ص: 134 ] فر إليه غلمان العسكر . فحشد له أهل
البصرة في ذي القعدة من العام ، والتقوا ، فهزمهم ، وقتل منهم مقتلة ، ووقع رعبه في النفوس ، فوجه الخليفة جيشا ، فما نفعوا .
ثم أوقع بأهل
الأبلة في سنة ست ، وأحرقها ، فسلم أهل
عبادان بأيديهم ، وسالموه ، فأخذ عبيدهم وسلاحهم .
ثم أخذ
الأهواز ، فخافه أهل
البصرة ، وانجفلوا ، فأخذها بالسيف في شوال ، سنة سبع وخمسين ، وقت صلاة الجمعة ، وهرب جندها فأحرق الجامع بمن حوى ، ولم تزل الحرب بينه وبين الموفق سجالا .
واستباح واسط في سنة أربع وستين ، وحصل للخبيث جواهر وأموال ، فاستأثر بها ، فأنكر عليه المتقشفون من أصحابه ، وذكروا له سيرة أبي بكر وعمر ، فقال : ليس فيهما قدوة .
وادعى أنه هو عبد الله المذكور في :
قل أوحي وزعم أن النبي -صلى الله عليه وسلم- ما يمتاز عليه إلا بالنبوة .
وزعم أنه تكلم في المهد ، صيح به : يا
علي ! فقال : يا لبيك . وكان يجمع
اليهود والنصارى ، يسألهم عما في التوراة والإنجيل من ذكره ، وهم يسخرون منه ، ويقرؤون له فصولا ، فيدعي أنها فيه . وزاد من
[ ص: 135 ] الإفك ، فنفرت منه قلوب خلق من أتباعه ومقتوه .
ولم يجد لجيشه لما كثروا بدا من أرزاق ، فقرر للجندي في الشهر عشرة دنانير ، فحسد قواده الفرسان ، وشغل بإنشاء الأبنية ، وفتر عن الزنج ، فهموا بالفتك به .
وأنشأ القائد
الشعراني مدينة منيعة ، فأخذت ، وهرب
الشعراني .
وأنشأ
سليمان بن جامع مدينة سماها : "
المنصورة " ، وحصنها بخمسة خنادق وطولها فرسخ ، فأخذت ، ونجا
ابن جامع .
وبقي
الموفق يكرم كل من فر إليه ، ويخلع عليهم . وكتب إلى الخبيث يدعوه إلى التوبة من ادعاء مخاطبة الملائكة ، ومن تحريفه القرآن وضلالته ، فما أجاب بشيء ، وحصن مدينته "
المختارة " التي
بنهر أبي الخصيب ، حتى بقيت يضرب بها المثل ، ونصب فيها المجانيق والأسلحة بما بهر العقول ، وبها نحو مائتي ألف مقاتل .
فما قدر عليها الجيش إلا بالمطاولة ، وأنشأ تلقاءها الموفق مدينة وسكنها ، ولم يزل إلى أن أخذ "
المختارة " فهرب الخبيث إلى مضائق في
نهر أبي الخصيب ، لا تصل إليها سفينة ولا فارس ، ثم برز في أبطاله ، وقاتل أشد قتال ، وهو يقول :
وعزيمتي مثل الحسام ، وهمتي نفس أصول بها كنفس القسور وإذا تنازعني أقول لها اسكتي
قتل يريحك أو صعود المنبر
[ ص: 136 ] قال
أحمد بن داود بن الجراح الكاتب : وصاحب الزنج : هو
علي بن محمد بن عبد الرحيم بن رجب ، من أهل
الري ، له حظ من الأدب ، وهو القائل :
أما والذي أسرى إلى ركن بيته حراجيج بالركبان مقورة حدبا
لأدرعن الحرب حتى يقال لي قضيت ذمام الحرب فاعتجر الحربا
وله إلى الخليفة :
بني عمنا إنا وأنتم أنامل تضمنها من راحتيها عقودها
بني عمنا لا توقدوا نار فتنة بطيء على مر الزمان خمودها
بني عمنا وليتم الترك أمرنا ونحن قديما أصلها وعديدها