العاضد
صاحب
مصر ، العاضد لدين الله ، خاتم الدولة العبيدية أبو محمد عبد الله بن الأمير يوسف بن الحافظ لدين الله عبد المجيد بن محمد بن المستنصر ، العبيدي الحاكمي المصري الإسماعيلي المدعي هو وأجداده أنهم فاطميون .
مولده سنة ست وأربعين وخمسمائة .
[ ص: 208 ] أقامه
nindex.php?page=showalam&ids=14626طلائع بن رزيك بعد
الفائز ، فكان من تحت حجره ، لا حل لديه ولا ربط ، وكان
العاضد سبابا خبيثا متخلفا .
قال
القاضي شمس الدين بن خلكان : كان إذا رأى سنيا استحل دمه ، وسار وزيره
الملك الصالح طلائع سيرة مذمومة ، واحتكر الغلات ، وقتل عدة أمراء ، وأضعف أحوال الدولة بقتل ذوي الرأي والبأس ، وصادر وعسف .
وفي أيام
العاضد أقبل
حسين بن نزار بن المستنصر بن الظاهر العبيدي من الغرب في جمع كثير ، فلما قارب
مصر غدر به خواصه ، وقبضوا عليه ، وأتوا به
العاضد ، فذبحه في سنة سبع وخمسين وتزوج
العاضد ببنت
طلائع ، وأخذ
طلائع في قطع أخبار العسكر والأمراء ، فتعاقدوا بموافقة
العاضد لهم على قتله ، فكمن له عدة في القصر ، فجرحوه ، فدخل مماليكه ، فقتلوا أولئك ، وحملوه ، فما أمسى ، وذلك في رمضان سنة ست وخمسين .
وولي مكانه ولده
الملك العادل رزيك وكان مليح النظم ، قوي الرفض ، جوادا شجاعا ، يناظر على الإمامة والقدر ، وعمل قبل موته بثلاث [ ليال ]
[ ص: 209 ] نحن في غفلة ونوم وللمو ت عيون يقظانة لا تنام
قد رحلنا إلى الحمام سنينا ليت شعري متى يكون الحمام
؟
ولعمارة اليمني فيه قصائد ورثاء ، منها في جنازته :
وكأنها تابوت موسى أودعت في جانبيه سكينة ووقار
وتغاير الحرمان والهرمان وفي تابوته وعلى الكريم يغار
نعم ، ووزر
للعاضد الملك أبو شجاع شاور السعدي ، وكان على نيابة
الصعيد من جهة طلائع ، فقوي ، وندم
طلائع على توليته لفروسيته وشهامته ، فأوصى طلائع وهو يموت إلى ابنه أن لا يهيج
شاور .
ثم إن
شاور حشد وجمع ، واخترق البرية إلى أن خرج من عند تروجة وقصد
القاهرة ، فدخلها من غير ممانعة ، ثم فتك
برزيك وتمكن .
[ ص: 210 ] ثم قدم
دمشق جريدة إلى
نور الدين مستنجدا به ، فجهز معه
شيركوه ; بل بعده بسنة ، فاسترد له الوزارة وتمكن ، ولم يجاز
شيركوه بما يليق به ، فأضمر له الشر ، واستعان
شاور بالفرنج ، وتحصن منهم
شيركوه ببلبيس ، فحصروه مدة حتى ملوا .
واغتنم
نور الدين خلو الساحل منهم ، فعمل المصاف على حارم . وأسر ملوكا في سنة تسع وخمسين .
ورجع
شيركوه بعد أمور طويلة الشرح .
ثم سير
العاضد ، يستنجد
بشيركوه على
الفرنج فسار وهزم
الفرنج بعد أن كادوا يأخذون البلاد وهم
شاور باغتيال
شيركوه وكبار عسكره ، فناجزوه وقتلوه في ربيع الآخر سنة أربع وستين ; قتله
جرديك النوري وصلاح الدين ، فتمارض
شيركوه ، فعاد
شاور ، فشد عليه
صلاح الدين .
ولعمارة فيه :
[ ص: 211 ] ضجر الحديد من الحديد وشاور في نصر دين محمد لم يضجر
حلف الزمان ليأتين بمثله حنثت يمينك يا زمان فكفر
فاستوزر
العاضد شيركوه فلم يطول ، ومات بالخانوق بعد شهرين وأيام وقام بعده ابن أخيه
صلاح الدين . وكان يضرب بشجاعة
أسد الدين شيركوه المثل ، ويخافه
الفرنج .
قال
ابن واصل حدثنا
الأمير حسام الدين بن أبي علي ، قال : كان جدي في خدمة
صلاح الدين ، فحكى وقعة
السودان بمصر التي زالت دولتهم بها ودولة العبيدية . قال : شرع
صلاح الدين يطلب من
العاضد أشياء من الخيل والرقيق والمال ليقوي بذلك ضعفه ، فسيرني إلى
العاضد أطلب منه فرسا ، فأتيته وهو راكب في بستانه الكافوري ، فقلت له ، فقال : ما لي إلا هذا الفرس . ونزل عنه ، وشق خفيه ورمى بهما ، فأتيت
صلاح الدين بالفرس .
قلت : تلاشى أمر
العاضد مع
صلاح الدين إلى أن خلعه ، وخطب
[ ص: 212 ] لبني العباس ، واستأصل شأفة
بني عبيد ، ومحق دولة الرفض ، وكانوا أربعة عشر متخلفا لا خليفة ،
والعاضد في اللغة أيضا القاطع ، فكان هذا عاضدا لدولة أهل بيته .
قال
ابن خلكان : أخبرني عالم أن
العاضد رأى في نومه كأن عقربا خرجت إليه من مسجد عرف بها فلدغته ، فلما استيقظ طلب معبرا ، فقال : ينالك مكروه [ من ] رجل مقيم بالمسجد . فسأل عن المسجد ، وقال للوالي عنه ، فأتي بفقير ، فسأله من أين هو ؟ وفيما قدم ؟ فرأى منه صدقا ودينا ، فقال : ادع لنا يا شيخ . وخلى سبيله ، ورجع إلى المسجد ، فلما غلب
صلاح الدين على
مصر عزم على خلع
العاضد ، فقال
ابن خلكان : استفتى الفقهاء ، فأفتوا بجواز خلعه لما هو من انحلال العقيدة والاستهتار ، فكان أكثرهم مبالغة في الفتيا ذاك ، وهو الشيخ
نجم الدين الخبوشاني ; فإنه عدد مساوئ هؤلاء ، وسلب عنهم الإيمان .
قال
أبو شامة اجتمعت
بأبي الفتوح بن العاضد وهو مسجون مقيد ، فحكى لي أن أباه في مرضه طلب
صلاح الدين ، فجاء وأحضرنا
[ ص: 213 ] ونحن صغار ، فأوصاه بنا ، فالتزم إكرامنا واحترامنا .
قال
أبو شامة : كان منهم ثلاثة
بإفريقية :
المهدي ،
والقائم ،
والمنصور ، وأحد عشر
بمصر آخرهم
العاضد ثم قال : يدعون الشرف ونسبتهم إلى مجوسي أو يهودي ، حتى اشتهر لهم ذلك ، وقيل : الدولة العلوية ، والدولة الفاطمية ; وإنما هي الدولة اليهودية أو المجوسية الملحدة الباطنية .
ثم قال : ذكر ذلك جماعة من العلماء الأكابر ، وأن نسبهم غير صحيح ; بل المعروف أنهم
بنو عبيد ، وكان والد
عبيد من نسل
القداح المجوسي الملحد . قال : وقيل : والده يهودي من
أهل سلمية ،
وعبيد كان اسمه سعيدا ، فغيره
بعبيد الله لما دخل إلى
المغرب ، وادعى نسبا ذكر بطلانه جماعة من علماء الأنساب ، ثم ترقى وتملك ، وبنى
المهدية ، قال : وكان زنديقا خبيثا ، ونشأت ذريته على ذلك ، وبقي هذا البلاء على الإسلام من أول دولتهم إلى آخرها .
قلت : وكانت دولتهم مائتي سنة وثمانيا وستين سنة ، وقد صنف
nindex.php?page=showalam&ids=12604القاضي أبو بكر بن الباقلاني كتاب " كشف أسرار الباطنية " ، فافتتحه ببطلان انتسابهم إلى الإمام
علي ، وكذلك
القاضي عبد الجبار المعتزلي .
هلك
العاضد يوم عاشوراء سنة سبع وستين وخمسمائة بذرب مفرط ، وقيل : مات غما لما سمع بقطع خطبته وإقامة الدعوة
للمستضيء ، وقيل :
[ ص: 214 ] سقي ، وقيل : مص خاتما له مسموما ، وكانت الدعوة المذكورة أقيمت في أول جمعة من المحرم ، وتسلم
صلاح الدين القصر بما حوى من النفائس والأموال ، وقبض -أيضا- على أولاد
العاضد وآله ، فسجنهم في بيت من القصر ، وقمع غلمانهم وأنصارهم ، وعفى آثارهم .
قال
العماد الكاتب وهم الآن محصورون محسورون لم يظهروا . وقد نقصوا وتقلصوا ، وانتقى
صلاح الدين ما أحب من الذخائر ، وأطلق البيع بعد في ما بقي ، فاستمر البيع فيها مدة عشر سنين .
ومن كتاب من إنشاء
القاضي الفاضل إلى
بغداد : " وقد توالت الفتوح غربا ، ويمنا وشاما ، وصارت البلاد ; بل الدنيا والشهر ، بل والدهر حرما حراما ، وأضحى الدين واحدا بعد أن كان أديانا ، والخلافة إذا ذكر بها أهل الخلاف لم يخروا عليها صما وعميانا ، والبدعة خاشعة ، والجمعة جامعة ، والمذلة في شيع الضلال شائعة ; ذلك بأنهم اتخذوا عباد الله من دونه أولياء ، وسموا أعداء الله أصفياء ، وتقطعوا أمرهم بينهم شيعا ، وفرقوا أمر الأمة وكان مجتمعا ، وقطع دابرهم ، ورغمت أنوفهم
[ ص: 215 ] ومنابرهم ، وحقت عليهم الكلمة تشريدا وقتلا ، وتمت كلمات ربك صدقا وعدلا ، وليس السيف عمن سواهم من كفار الفرنج بصائم ، ولا الليل عن السير إليهم بنائم " .
قلت : أعجبني سرد هؤلاء الملوك العبيدية على التوالي ، ليتأمله الناظر مجتمعا ، فلنرجع الآن إلى ترتيب الطباق في حدود العشرين وثلاثمائة وما بعدها .