المستعصم بالله
الخليفة الشهيد أبو أحمد عبد الله بن المستنصر بالله منصور بن الظاهر محمد بن الناصر أحمد بن المستضيء الهاشمي العباسي البغدادي .
ولد سنة تسع وستمائة .
واستخلف سنة أربعين يوم موت أبيه في عاشر جمادى الآخرة . وكان فاضلا ، تاليا لكتاب الله ، مليح الكتابة . ختم على
ابن النيار ، فأكرمه يوم الختم ستة آلاف دينار ، وبلغت الخلع يوم بيعته أزيد من ثلاثة عشر ألف خلعة .
استجاز له
ابن النجار المؤيد الطوسي وعبد المعز الهروي ، وسمع منه بها شيخه
أبو الحسن بن النيار ، وحدث عنه .
وحدث عنه بهذه الإجازة في حياته
الباذرائي ،
ومحيي الدين بن الجوزي .
[ ص: 175 ] وكان كريما ، حليما ، دينا ، سليم الباطن ، حسن الهيئة .
وقد حدث عنه
بمراغة ولده
الأمير مبارك .
قال
قطب الدين اليونيني كان متدينا متمسكا بالسنة كأبيه وجده ، ولكنه لم يكن في حزم أبيه ، وتيقظه ، وعلو همته ، وإقدامه ، وإنما قدموه على عمه الخفاجي لما يعلمون من لينه وانقياده وضعف رأيه ليستبدوا بالأمور .
ثم إنه استوزر
المؤيد بن العلقمي الرافضي ، فأهلك الحرث والنسل ، وحسن له جمع الأموال ، وأن يقتصر على بعض العساكر ، فقطع أكثرهم ، وكان يلعب بالحمام ، وفيه حرص وتوان .
وفي سنة إحدى وأربعين وستمائة عاثت
الخوارزمية بقرى
الشام .
وصالحت
التتار صاحب الروم على ألف دينار ، وفرس ومملوك وجارية في كل نهار ، بعد أن استباحوا قيصرية .
وأهلك قاضي القضاة
بدمشق الرفيع الجيلي .
ودخلت
الفرنج القدس ، ورشوا الخمر على الصخرة ، وذبحوا عندها خنزيرا ، وكسروا منها شقفة .
[ ص: 176 ] وفي سنة اثنتين وأربعين كان حصار
الخوارزمية على
دمشق في خدمة صاحب
مصر ، واشتد القحط
بدمشق ثم التقى الشاميون ومعهم عسكر من
الفرنج والمصريون ومعهم
الخوارزمية بين
عسقلان وغزة ، فانهزم الجمعان ، ولكن حصدت
الخوارزمية الفرنج في ساعة ثم أسروا منهم ثمانيمائة ، ويقال : زادت القتلى على ثلاثين ألفا . واندك صاحب
حمص ، ونهبت خزائنه وبكى ، وقال : قد علمت بأنا لا نفلح لما سرنا تحت الصلبان ، واشتد الحصار على
دمشق .
وجاءت من الحج
أم المستعصم ومجاهد الدين الدويدار وقيران وكان وفدا عظيما .
ومات
الوزير بن الناقد ، فوزر
المؤيد بن العلقمي والأستاذ دارية
لمحيي الدين بن الجوزي .
ودخلت سنة ثلاث وأربعين : والحصار على
دمشق وتعثرت الرعية وخربت الحواضر ، وكثر الفناء ، وفي الآخر ترك البلد
الصالح إسماعيل ، وصاحب
حمص ، وترحلا إلى
بعلبك ، ودخل البلد
nindex.php?page=showalam&ids=15285معين الدين حسن بن الشيخ ، وحكم وعزل من القضاء
محيي الدين بن الزكي ، وولى
صدر الدين بن سني الدولة .
وجاء رسول الخلافة
nindex.php?page=showalam&ids=11890ابن الجوزي بخلع السلطنة
للملك الصالح نجم الدين .
[ ص: 177 ] وفيها جاءت فرقة من
التتار إلى بعقوبا فالتقاهم
الدويدار ، فكسرهم . .
وفي ذي القعدة بلغت غرارة القمح
بدمشق ألفا ومائتي درهم .
وفي سنة أربع وأربعين عاثت
الخوارزمية وتخربت القرى ، فالتقاهم عسكر
حلب وحمص ، فكسروا شر كسرة على بحيرة
حمص ، وقتل مقدمهم
بركة خان ، وحار
الصالح إسماعيل في نفسه ، والتجأ إلى صاحب
حلب .
وفيها ختان أحمد وعبد الرحمن ولدي الخليفة وأخيه علي فمن الوليمة ألف وخمس مائة رأس شواء .
وقدم رسولان من
التتار أحدهما من
بركة ، والآخر من
بايجو ، فاجتمعوا
بابن العلقمي ، وتعمت الأخبار .
وفيها أخذت
الفرنج شاطبة .
وفي سنة خمس وأربعين راح
الصالح إلى
مصر وخلف جيشه يحاصرون
عسقلان وطبرية فافتتحوهما ، وحاصر الحلبيون
حمص أشهرا وتعب صاحبها
الأشرف فسلمها وعوض عنها
بتل باشر في سنة ست .
وفي سنة سبع هجمت
الفرنج دمياط في ربيع الأول فهرب
[ ص: 178 ] الناس من الباب الآخر ، وتملكها
الفرنج صفوا عفوا نعوذ بالله من الخذلان ، وكان السلطان
بالمنصورة فغضب على أهلها وشنق ستين من أعيان أهلها ، وذاقوا ذلا وجوعا ، واستوحش العسكر من السلطان ، وقيل : هم مماليكه بقتله ، فقال نائبه
فخر الدين بن الشيخ : اصبروا فهو على شفا ، فمات في نصف شعبان ، وأخفي موته إلى أن أحضر ابنه المعظم
تورانشاه من
حصن كيفا ، فلم يبق إلا قليلا وقتلوه ، وكانت وقعة
المنصورة في ذي القعدة ، فساقت
الفرنج إلى
الدهليز ، فخرج نائب السلطنة
فخر الدين بن الشيخ وقاتل فقتل ، وانهزم المسلمون وعظم الخطب ، ثم تناخى العسكر وكروا على العدو فطحنوهم ، وقتلوا خلقا ، ونزل النصر .
ثم في ذي الحجة كان وصول
المعظم ، وكان نوى أن يفتك
بفخر الدين ، لأنه بلغه أنه رام السلطنة .
واستهلت سنة ثمان :
والفرنج على
المنصورة بإزاء المسلمين ، ولكنهم في ضعف وجوع ، وماتت خيلهم ، فعزم الفرنسيس على الركوب ليلا إلى
دمياط ، فعلم المسلمون ، وكانت
الفرنج قد عملوا جسرا عظيما على النيل ، فذهلوا عن قطعه ، فدخل منه المسلمون فكبسوهم ، فالتجأت
الفرنج إلى منية
أبي عبد الله ، فأحاط بهم الجيش ، وظفر أسطول المسلمين بأسطولهم وغنموا مراكبهم ، وبقي الفرنسيس في خمس مائة فارس وخذل ، فطلب
الطواشي رشيد وسيف الدين القيمري ، فأتوه فطلب أمانا فأمناه على أن لا يمروا به بين الناس ، وهرب جمهور
الفرنج ، وتبعهم العسكر وبقوا جملة وجملة حتى أبيدت خضراؤهم ، حتى قيل : نجا منهم فارسان ، ثم غرقا في البحر ! وغنم المسلمون ما لا يعبر عنه .
[ ص: 179 ] أنبأني
الخضر بن حمويه ، قال : لو أراد ملكهم لنجا على فرسه ولكنه حمى ساقيه ، فأسر هو وجماعة ملوك وكنود فأحصي الأسرى فكانوا نيفا وعشرين ألفا ، وغرق وقتل سبعة آلاف ، وكان يوما ما سمع المسلمون بمثله ، وما قتل من المسلمين نحو المائة ، واشترى الفرنسيس نفسه برد
دمياط وبخمس مائة ألف دينار .
وجاء كتاب المعظم ، وفيه في أول السنة ترك العدو خيامهم ، وقصدوا
دمياط ، فعمل السيف فيهم عامة الليل ، وإلى النهار ، فقتلنا منهم ثلاثين ألفا غير من ألقى نفسه في الماء ، وأما الأسرى فحدث عن البحر ولا حرج .
وفي أواخر المحرم قتلوا
المعظم .
وفيها استولى صاحب
حلب على
دمشق ، ثم سار ليأخذ
مصر ، وهزم المصريين ، ثم تناخوا وهزموه وقتلوا نائبه .
واستولى لؤلؤ على
جزيرة ابن عمر ، وقتل ملكها في سنة تسع .
وفي سنة خمسين : أغارت
التتار على
ميافارقين وسروج ، وعليهم
كشلوخان المغلي .
وفي سنة إحدى وخمسين : أخذ المسلمون
صيدا ، وهرب أهلها إلى قلعتها .
وفيها قدمت
بنت علاء الدين صاحب الروم ، فدخل بها صاحب
دمشق الملك الناصر ، فكان عرسا مشهودا وعملت القباب ، وكان الخلف واقعا بين
الناصر وبين صاحب
مصر المعز ، ثم بعد مدة وقع الصلح .
[ ص: 180 ] وفي سنة أربع وخمسين : كان ظهور الآية الكبرى وهي النار بظاهر
المدينة النبوية ودامت أياما تأكل الحجارة ، واستغاث
أهل المدينة إلى الله وتابوا ، وبكوا ، ورأى
أهل مكة ضوءها من
مكة ، وأضاءت لها أعناق الإبل
ببصرى ، كما وعد بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما صح عنه . وكسف فيها الشمس والقمر ، وكان فيها الغرق العظيم
ببغداد ، وهلك خلق من أهلها ، وتهدمت البيوت ، وطفح الماء على السور .
وفيها سار الطاغية
هولاكو بن تولي بن جنكزخان في مائة ألف ، وافتتح حصن الألموت ، وأباد
الإسماعيلية وبعث جيشا عليهم
باجونوين ، فأخذوا
مدائن الروم ، وذل لهم صاحبها ، وقتل خلق كثير .
وفيها كان حريق
مسجد النبي صلى الله عليه وسلم جميعه في أول رمضان من مسرجة القيم ، فلله الأمر كله .
وفي سنة خمس وخمسين : مات صاحب
مصر الملك المعز أيبك التركماني ، قتلته زوجته
شجر الدر في الغيرة ، فوسطت .
وجرت فتنة مهولة
ببغداد بين الناس وبين
الرافضة ، وقتل عدة من الفريقين ، وعظم البلاء ، ونهب
الكرخ ، فحنق
ابن العلقمي الوزير الرافضي ، وكاتب
هولاكو ، وطمعه في
العراق ، فجاءت رسل
هولاكو إلى
بغداد ، وفي الباطن معهم فرمانات لغير واحد ، والخليفة لا يدري ما يتم ، وأيامه قد ولت ، وصاحب
دمشق شاب غر جبان ، فبعث ولده الطفل مع الحافظي بتقادم وتحف إلى
هولاكو فخضع له ،
ومصر في اضطراب بعد قتل
المعز ، وصاحب الروم قد هرب إلى
بلاد الأشكري ، فتمرد
هولاكو وتجبر ، واستولى على الممالك ، وعاث جنده الكفرة يقتلون ويأسرون ويحرقون .
[ ص: 181 ] ودخلت سنة ست : فسار عسكر
الناصر ، وعليهم
المغيث بن صاحب الكرك ، ليأخذوا
مصر فالتقاهم
المظفر قطز ، وهو نائب
للمنصور علي ولد
المعز بالرمل فكسرهم ، وأسر جماعة أمراء فضرب أعناقهم .
وأما
هولاكو فقصد
بغداد فخرج عسكرها إليه فانكسروا ، وكاتب
لؤلؤ صاحب
الموصل وابن صلايا متولي إربل الخليفة سرا ينصحانه فما أفاد ، وقضي الأمر ، وأقبل
هولاكو في
المغول والترك والكرج ومدد من ابن عمه
بركة ومدد من عسكر
لؤلؤ عليهم ابنه
الملك الصالح ، فنزلوا بالجانب الغربي ، وأنشئوا عليهم سورا ، وقيل : بل أتى
هولاكو البلد من الجانب الشرقي فأشار الوزير على الخليفة بالمداراة وقال : أخرج إليه أنا ، فخرج واستوثق لنفسه ورد ، فقال :
القان راغب في أن يزوج بنته بابنك
أبي بكر ويبقي لك منصبك كما أبقى صاحب
الروم في مملكته من تحت أوامر
القان ، فاخرج إليه ، فخرج في كبراء دولته للنكاح يعني ، فضرب أعناق الكل بهذه الخديعة ، ورفس
المستعصم حتى تلف ، وبقي السيف في
بغداد بضعة وثلاثين يوما ، فأقل ما قيل : قتل بها ثمان مائة ألف نفس ، وأكثر ما قيل بلغوا ألف ألف وثمان مائة ألف ، وجرت السيول من الدماء فإنا لله وإنا إليه راجعون .
ثم بعد ذهاب البلد ومن فيه إلا اليسير نودي بالأمان ، وانعكس على الوزير مرامه وذاق ذلا وويلا وما أمهله الله .
ومن القتلى
مجاهد الدين الدويدار والشرابي ،
nindex.php?page=showalam&ids=11890وابن الجوزي أستاذ الدار ، وبنوه ، وقتل
بايجونوين نائب
هولاكو اتهمه بمكاتبة الخليفة ،
[ ص: 182 ] ورجع
هولاكو بالسبي والأموال إلى
أذربيجان ، فنزل إلى خدمته
لؤلؤ فخلع عليه ، ورده إلى
الموصل ، ونزل إليه
ابن صلايا ، فضرب عنقه ، وبعث عسكرا حاصروا
ميافارقين وبعث رسولا إلى
الناصر وكتابه : خدمة ملك ناصر طال عمره إنا فتحنا
بغداد ، واستأصلنا ملكها وملكها وكان ظن إذ ضن بالأموال ولم ينافس في الرجال أن ملكه يبقى على ذلك الحال ، وقد علا قدره ونمى ذكره فخسف في الكمال بدره :
إذا تم أمر بدا نقصه توقع زوالا إذا قيل تم
ونحن في طلب الازدياد على ممر الآباد ، فأبد ما في نفسك ، وأجب دعوة ملك البسيطة تأمن شره ، وتنل بره ، واسع إليه ولا تعوق رسولنا والسلام .
ذكر
جمال الدين سليمان بن رطلين الحنبلي ، قال : جاء
هولاكو في نحو مائتي ألف ، ثم طلب الخليفة فطلع معه القضاة والأعيان في نحو من سبع مائة نفس فمنعوا ، وأحضر الخليفة ومعه سبعة عشر كان أبي منهم ، وضرب رقاب سائر أولئك ، فأنزل الخليفة في خيمة والسبعة عشر في خيمة ، قال أبي : فكان الخليفة يجيء إلينا في الليل ويقول : ادعوا لي ، قال : فنزل على خيمته طائر فطلبه
هولاكو ، فقال : أيش عمل هذا الطائر ، وما قال لك ؟ ثم جرت له محاورة معه ، وأمر به وبابنه أبي بكر فرفسا حتى ماتا ، وأطلقوا السبعة عشر وأعطوهم نشابة ، فقتل منهم اثنان
[ ص: 183 ] وأتى الباقون دورهم فوجدوها بلاقع ، فأتيت أبي بالمغيثية ، فوجدته مع رفاقه فلم يعرفني أحد منهم ، وقالوا : ما تريد ؟ قلت : أريد
فخر الدين بن رطلين ، وقد عرفته فالتفت إلي وقال : ما تريد منه ؟ قلت : أنا ولده ، فنظر فلما تحققني ، بكى وكان معي قليل سمسم فتركته بينهم .
وعمل
ابن العلقمي على ترك الجمعات ، وأن يبني مدرسة على مذهب
الرافضة ، فما بلغ أمله ، وأقيمت الجمعات .
وحدثني أبي ، قال : كان قد مشى حال الخليفة بأن يكون
للتتار نصف دخل
العراق ، وما بقي شيء ، أن يتم ذلك ، فقال
ابن العلقمي : بل المصلحة قتله ، وإلا فما يتم لكم ملك
العراق .
قلت : قتلوه خنقا ، وقيل : رفسا ، وقيل : غما في بساط ، وكانوا يسمونه " الأبله " .
وأنبأني
الظهير الكازروني في تاريخه أن
المستعصم دخل
بغداد بعد أن خرج إلى
هولاكو ، فأخرج له الأموال ، ثم خرج في رابع صفر ، وبذل السيف في خامس صفر .
قال : وقتل
المستعصم بالله يوم الأربعاء رابع عشر صفر ، فقيل : جعل في غرارة ورفس إلى أن مات رحمه الله ، ودفن وعفي أثره ، وقد بلغ ستا وأربعين سنة وأربعة أشهر .
قال : وقتل ابناه
أحمد وعبد الرحمن وبقي ولده
مبارك وفاطمة nindex.php?page=showalam&ids=10640وخديجة ومريم في أسر
التتار .
[ ص: 184 ] قلت : وله ذرية إلى اليوم
بأذربيجان ، وانقطعت الإمامة العباسية ثلاث سنين وأشهرا بموت
المستعصم ، فكانت دولتهم من سنة اثنتين وثلاثين ومائة إلى سنة ست وخمسين وستمائة فذلك خمسمائة وأربع وعشرون سنة ، ولله الأمر .