تلك آيات الكتاب الحكيم اسم الإشارة يجوز أن يكون مرادا به جميع آي القرآن التي نزلت قبل هذه السورة باعتبار حضور تلك الآيات في أذهان الناس من المؤمنين وغيرهم ، فكأنها منظورة مشاهدة ، فصحت الإشارة إليها إذ هي متلوة محفوظة فمن شاء أن يسمعها ويتدبرها أمكنه
[ ص: 81 ] ذلك ، ولأن الخوض في شأنها هو حديث الناس في نواديهم وأسمارهم وشغلهم وجدالهم ، فكانت بحيث تتبادر إلى الأذهان عند ورود الإشارة إليها .
واسم الإشارة يفسر المقصود منه خبره وهو
آيات الكتاب الحكيم كما فسره في قوله - تعالى - :
فهذا يوم البعث وقوله تعالى :
قال هذا فراق بيني وبينك . قال في الكشاف : تصور فراقا بينهما سيقع قريبا فأشار إليه بهذا .
وقد تقدم شيء من هذا المعنى عند قوله - تعالى :
ذلك هدى الله يهدي به من يشاء من عباده في سورة الأنعام . فالمقصود من الإشارة إما الحث على النظر في آيات القرآن ليتبين لهم أنه من عند الله ويعلموا صدق من جاءهم به . وإما إقناعهم من الآيات الدالة على صدق النبيء - صلى الله عليه وسلم - بآيات الكتاب الحكيم فإنهم يسألون النبيء آية على صدقه ، كما دل عليه قوله في هذه السورة
وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قال الذين لا يرجون لقاءنا ائت بقرآن غير هذا أو بدله فقيل لهم
تلك آيات الكتاب الحكيم ، أي ما هو آية واحدة بل آيات كثيرة ، فإن الإعجاز حاصل بكل سورة منه .
ولأنه اشتمل على الحقائق السامية والهدى إلى الحق والحكمة ; فرجل أمي ينشأ في أمة جاهلة يجيء بمثل هذا الهدى والحكمة لا يكون إلا موحى إليه بوحي إلهي ، كما دل عليه قوله - تعالى :
وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك إذا لارتاب المبطلون .
وعليه فاسم الإشارة مبتدأ و ( آيات ) خبره . وإضافة آيات إلى الكتاب إضافة شبيهة بالبيانية وإن كان الكتاب بمنزلة الظرف للآيات باختلاف الاعتبار ، وهو معنى الإضافة البيانية عند التحقيق .
ويجوز أن تجعل الإشارة بـ ( تلك ) إلى حروف (
الر ) لأن المختار في الحروف المقطعة في فواتح السور أن المقصود من تعدادها
التحدي بالإعجاز ، فهي بمنزلة التهجي للمتعلم . فيصح أن يجعل (
الر ) في محل ابتداء ويكون اسم الإشارة خبرا عنه . والمعنى تلك الحروف
[ ص: 82 ] آيات الكتاب الحكيم ، أي من جنسها حروف الكتاب الحكيم ، أي جميع تراكيبه من جنس تلك الحروف .
والمقصود تسجيل عجزهم عن معارضته بأن آيات الكتاب الحكيم كلها من جنس حروف كلامهم فما لكم لا تستطيعون معارضتها بمثلها إن كنتم تكذبون بأن الكتاب منزل من عند الله ، فلولا أنه من عند الله لكان اختصاصه بهذا النظم المعجز دون كلامهم محالا إذ هو مركب من حروف كلامهم .
والكتاب : القرآن . فالتعريف فيه للعهد . ويجوز جعل التعريف دالا على معنى الكمال في الجنس ، كما تقول : أنت الرجل .
والحكيم : وصف إما بمعنى فاعل ، أي الحاكم على الكتب بتمييز صحيحها من محرفها ، مثل قوله :
ومهيمنا عليه ، وقوله :
وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه
وإما بمعنى مفعل بفتح العين ، أي محكم ، مثل عتيد ، بمعنى معد .
وإما بمعنى ذي الحكمة لاشتماله على الحكمة والحق والحقائق العالية ، إذ الحكمة هي إصابة الحق بالقول والعمل فوصف بوصف ذي الحكمة من الناس على سبيل التوسع الناشئ عن البليغ كقول
الأعشى :
وغريبة تأتي الملوك حكيمة قد قلتها ليقال من ذا قالها
وإما أن يكون وصف بوصف منزله المتكلم به ، كما مشى عليه صاحب الكشاف عند قوله - تعالى :
يس والقرآن الحكيم إنك لمن المرسلين واختيار وصف ( الحكيم ) من بين أوصاف الكمال الثابتة للقرآن لأن لهذا الوصف مزيد اختصاص بمقام إظهار الإعجاز من جهة المعنى بعد إظهار الإعجاز من جهة اللفظ بقوله :
الر تلك آيات الكتاب الحكيم ، ولما اشتملت عليه السورة من براهين التوحيد وإبطال الشرك .
[ ص: 83 ] وإلى هذا المعنى يشير قوله بعد هذا
قل لو شاء الله ما تلوته عليكم ولا أدراكم به فقد لبثت فيكم عمرا من قبله أفلا تعقلون