الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
أكان للناس عجبا أن أوحينا إلى رجل منهم أن أنذر الناس وبشر الذين آمنوا أن لهم قدم صدق عند ربهم

الجملة مستأنفة استئنافا بيانيا لأن جملة تلك آيات الكتاب الحكيم بما فيها من إبهام الداعي إلى التوقف على آيات الكتاب الحكيم تثير سؤالا عن ذلك الداعي فجاءت هذه الجملة تبين أن وجه ذلك هو استبعاد الناس الوحي إلى رجل من الناس استبعاد إحالة . وجاءت على هذا النظم الجامع بين بيان الداعي وبين إنكار السبب الذي دعا إليه وتجهيل المتسببين فيه ، ولك أن تجعله استئنافا ابتدائيا ; لأنه مبدأ الغرض الذي جاءت له السورة ، وهو الاستدلال على صدق الرسول وإثبات البعث .

فالهمزة للاستفهام المستعمل في الإنكار ، أي كيف يتعجبون من ذلك تعجب إحالة .

وفائدة إدخال الاستفهام الإنكاري على ( كان ) دون أن يقال : ( أعجب الناس ) ، هي الدلالة على التعجيب من تعجبهم المراد به إحالة الوحي إلى بشر .

والمعنى : أحدث وتقرر فيهم التعجب من وحينا ; لأن فعل الكون يشعر بالاستقرار والتمكن فإذا عبر به أشعر بأن هذا غير متوقع حصوله .

و ( للناس ) متعلق بكان لزيادة الدلالة على استقرار هذا التعجب فيهم ; لأن أصل اللام أن تفيد الملك ، ويستعار ذلك للتمكن ، أي لتمكن الكون عجبا من نفوسهم .

و ( عجبا ) خبر كان مقدم على اسمها للاهتمام به لأنه محل الإنكار .

و ( أن أوحينا ) اسم كان ، وجيء فيه بـ ( أن ) و ( الفعل ) دون المصدر الصريح وهو وحينا ليتوسل إلى ما يفيده الفعل من التجدد وصيغة المضي من الاستقرار تحقيقا لوقوع الوحي المتعجب منه وتجدده وذلك ما يزيدهم كمدا .

[ ص: 84 ] والعجب : مصدر ( عجب ) ، إذا عد الشيء خارجا عن المألوف نادر الحصول . ولما كان التعجب مبدءا للتكذيب وهم قد كذبوا بالوحي إليه ولم يقتصروا على كونه عجيبا جاء الإنكار عليهم بإنكار تعجبهم من الإيحاء إلى رجل من البشر لأن إنكار التعجب من ذلك يئول إلى إنكار التكذيب بالأولى ويقلع التكذيب من عروقه .

ويجوز أن يكون العجب كناية عن إحالة الوقوع ، كما في قوله - تعالى : قالت يا ويلتى أألد وأنا عجوز وهذا بعلي شيخا إن هذا لشيء عجيب قالوا أتعجبين من أمر الله في سورة هود وقوله : أوعجبتم أن جاءكم ذكر من ربكم على رجل منكم لينذركم في سورة الأعراف . وكانت حكاية تعجبهم بإدماج ما يفيد الرد عليهم بأن الوحي كان إلى رجل من الناس وذلك شأن الرسالات كلها كما قال - تعالى : وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا يوحى إليهم وقال ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا وقال قل لو كان في الأرض ملائكة يمشون مطمئنين لنزلنا عليهم من السماء ملكا رسولا

وأطلق ( الناس ) على طائفة من البشر ، والمراد المشركون من أهل مكة لأنهم المقصود من هذا الكلام . وهذا الإطلاق مثل ما في قوله : إن الناس قد جمعوا لكم . وعن ابن عباس أنكرت طائفة من العرب رسالة محمد - صلى الله عليه وسلم - فقالوا : الله أعظم من أن يكون له رسول بشرا ، فأنزل الله - تعالى : أكان للناس عجبا أن أوحينا إلى رجل منهم أن أنذر الناس

و أن في قوله : أن أنذر الناس تفسيرية لفعل ( أوحينا ) لأن الوحي فيه معنى القول .

و ( الناس ) الثاني يعم جميع البشر الذين يمكن إنذارهم ، فهو عموم عرفي . ولكون المراد بـ ( الناس ) ثانيا غير المراد به أول ذكر بلفظه الظاهر دون أن يقال : أن أنذرهم .

ولما عطف على الأمر بالإنذار الأمر بالتبشير للذين آمنوا بقي الناس المتعلق بهم الإنذار مخصوصا بغير المؤمنين .

[ ص: 85 ] وحذف المنذر به للتهويل ، ولأنه يعلم حاصله من مقابلته بقوله : وبشر الذين آمنوا أن لهم قدم صدق ، وفعل التبشير يتعدى بالباء ، فالتقدير : وبشر الذين آمنوا بأن لهم قدم صدق ، فحذف حرف الجر مع ( أن ) جريا على الغالب .

والقدم : اسم لما تقدم وسلف ، فيكون في الخير والفضل وفي ضده . قال ذو الرمة :


لكم قدم لا ينـكـر الـنـاس أنهـا مع الحسب العادي طمت على البحر



وذكر المازري في المعلم عن ابن الأعرابي : أن القدم لا يعبر به إلا عن معنى المقدم لكن في الشرف والجلالة . وهو فعل بمعنى فاعل مثل سلف وثقل . قال ابن عطية : ومن هذه اللفظة قول النبيء - صلى الله عليه وسلم - في صفة جهنم حتى يضع رب العزة فيها قدمه فتقول قط قط يشير إلى حديث أنس بن مالك قال نبيء الله - صلى الله عليه وسلم - : ما تزال جهنم تقول هل من مزيد حتى يضع رب العزة ( وفي رواية الجبار ) فيها قدمه فتقول قط قط ، وعزتك . ويزوى بعضها إلى بعض . وهذا أحد تأويلين لمعنى " قدمه " . وأصل ذلك في المعلم على صحيح مسلم للمازري وعزاه إلى النضر بن شميل .

والمراد بـ ( قدم صدق ) في الآية قدم خير ، وإضافة ( قدم ) إلى ( صدق ) من إضافة الموصوف إلى الصفة . وأصله قدم صدق ، أي صادق وهو وصف بالمصدر : فعلى قول الجمهور يكون وصف ( صدق ) لـ ( قدم ) وصفا مقيدا . وعلى قول ابن الأعرابي يكون وصفا كاشفا .

والصدق : موافقة الشيء لاعتقاد المعتقد ، واشتهر في مطابقة الخبر . ويضاف شيء إلى ( صدق ) بمعنى مصادفته للمأمول منه المرضي وأنه لا يخيب ظن آمل كقوله : ولقد بوأنا بني إسرائيل مبوأ صدق وقوله : في مقعد صدق عند مليك مقتدر

وقوله : أن أنذر الناس تفسير لفعل ( أوحينا ) . وإنما اقتصر على ذكر هذا الموحى به لأن ذلك هو الذي حملهم على التكذيب إذ صادف صرفهم عن ضلاله دينهم وسمعوا منه تفضيل المؤمنين عليهم . وأيضا في ذكر المفسر إدماج لبشارة المؤمنين بهذه المزية .

التالي السابق


الخدمات العلمية