ولا تبذر تبذيرا إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين وكان الشيطان لربه كفورا لما ذكر البذل المحمود ، وكان ضده معروفا عند العرب ; أعقبه بذكره للمناسبة .
ولأن في الانكفاف عن البذل غير المحمود الذي هو التبذير استبقاء للمال الذي يفي بالبذل المأمور به ، فالانكفاف عن هذا تيسير لذاك ، وعون عليه ، فهذا وإن كان غرضا مهما من التشريع المسوق في هذه الآيات قد وقع موقع الاستطراد في أثناء الوصايا المتعلقة بإيتاء المال ; ليظهر كونه وسيلة لإيتاء المال لمستحقيه ، وكونه مقصودا بالوصاية أيضا لذاته ، ولذلك سيعود الكلام إلى إيتاء المال لمستحقيه بعد الفراغ من النهي عن التبذير بقوله
وإما تعرضن عنهم الآية ، ثم يعود الكلام إلى ما بين أحكام التبذير بقوله
ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك .
وليس قوله
ولا تبذر تبذيرا متعلقا بقوله
وآت ذا القربى حقه إلخ . . ; لأن التبذير لا يوصف به بذل المال في حقه ، ولو كان أكثر من حاجة المعطى بالفتح .
فجملة
ولا تبذر تبذيرا معطوفة على جملة
ألا تعبدوا إلا إياه ; لأنها من جملة ما قضى الله به ، وهي معترضة بين جملة
وآت ذا القربى حقه الآية ، وجملة
وإما تعرضن عنهم الآية ، فتضمنت هذه الجملة وصية سادسة مما قضى الله به .
[ ص: 79 ] والتبذير : تفريق المال في غير وجهه ، وهو مرادف الإسراف ، فإنفاقه في الفساد تبذير ، ولو كان المقدار قليلا ، وإنفاقه في المباح إذا بلغ حد السرف تبذير ، وإنفاقه في وجوه البر والصلاح ليس بتبذير ، وقد قال بعضهم لمن رآه ينفق في وجوه الخير : لا خير في السرف ، فأجابه المنفق : لا سرف في الخير ، فكان فيه من بديع الفصاحة محسن العكس .
ووجه النهي عن التبذير هو أن المال جعل عوضا لاقتناء ما يحتاج إليه المرء في حياته من ضروريات ، وحاجيات ، وتحسينات ، وكان نظام القصد في إنفاقه ضامن كفايته في غالب الأحوال بحيث إذا أنفق في وجهه على ذلك الترتيب بين الضروري والحاجي والتحسيني أمن صاحبه من إلخصاصة فيما هو إليه أشد احتياجا ، وتجاوز هذا الحد فيه يسمى تبذيرا بالنسبة إلى أصحاب الأموال ذات الكفاف ، وأما أهل الوفر والثروة فلأن ذلك الوفر آت من أبواب اتسعت لأحد فضاقت على آخر لا محالة ; لأن الأموال محدودة ، فذلك الوفر يجب أن يكون محفوظا لإقامة أود المعوزين ، وأهل الحاجة الذين يزداد عددهم بمقدار وفرة الأموال التي بأيدي أهل الوفر والجدة ، فهو مرصود لإقامة مصالح العائلة ، والقبيلة وبالتالي مصالح الأمة .
فأحسن ما يبذل فيه وفر المال هو اكتساب الزلفى عند الله ، قال تعالى
وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله ، واكتساب المحمدة بين قومه ، وقديما قال المثل العربي ( نعم العون على المروءة الجدة ) ، قال . . . ( اللهم هب لي حمدا ، وهب لي مجدا ، فإنه لا حمد إلا بفعال ، ولا فعال إلا بمال ) .
والمقصد الشرعي أن تكون أموال الأمة عدة لها ، وقوة لابتناء أساس مجدها ، والحفاظ على مكانتها حتى تكون مرهوبة الجانب مرموقة بعين الاعتبار غير محتاجة إلى من قد يستغل حاجتها فيبتز منافعها ، ويدخلها تحت نير سلطانه .
[ ص: 80 ] ولهذا أضاف الله تعالى الأموال إلى ضمير المخاطبين في قوله
ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قيما ولم يقل : أموالهم مع أنها أموال السفهاء ، لقوله بعده
فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم فأضافها إليهم حين صاروا رشداء .
وما منع السفهاء من التصرف في أموالهم إلا خشية التبذير ، ولذلك لو تصرف السفيه في شيء من ماله تصرف السداد والصلاح لمضى .
وذكر المفعول المطلق تبذيرا بعد
ولا تبذر لتأكيد النهي كأنه قيل : لا تبذر ، لا تبذر ، مع ما في المصدر من استحضار جنس المنهي عنه استحضارا لما تتصور عليه تلك الحقيقة بما فيها من المفاسد .
وجملة
إن المبذرين تعريف الجنس ، أي الذين عرفوا بهذه الحقيقة كالتعريف في قوله
هدى للمتقين .
والإخوان جمع أخ ، وهو هنا مستعار للملازم غير المفارق ; لأن ذلك شأن الأخ ، كقولهم : أخو العلم ، أي ملازمه والمتصف به ، وأخو السفر لمن يكثر الأسفار ، وقول عدي بن زيد :
وأخو الحضر إذ بناه وإذ دج لة تجبي إليه والخابور
يريد صاحب قصر الحضر ، وهو ملك بلد الحضر المسمى ( الضيزن ) بن معاوية القضاعي الملقب السيطرون .
والمعنى : أنهم من أتباع الشياطين ؟ وحلفائهم كما يتابع الأخ أخاه .
وقد زيد تأكيد ذلك بلفظ كانوا المفيد أن تلك الأخوة صفة راسخة فيهم ، وكفى بحقيقة الشيطان كراهة في النفوس واستقباحا .
[ ص: 81 ] ومعنى ذلك : أن التبذير يدعو إليه الشيطان ; لأنه إما إنفاق في الفساد ، وإما إسراف يستنزف المال في السفاسف ، واللذات فيعطل الإنفاق في الخير وكل ذلك يرضي الشيطان ، فلا جرم أن كان المتصفون بالتبذير من جند الشيطان وإخوانه .
وهذا تحذير من التبذير ، فإن التبذير إذا فعله المرء اعتاده فأدمن عليه فصار له خلقا ، لا يفارقه شأن الأخلاق الذميمة أن يسهل تعلقها بالنفوس ، كما ورد في الحديث
nindex.php?page=hadith&LINKID=10342069إن المرء لا يزال يكذب حتى يكتب عند الله كذابا ، فإذا بذر المرء لم يلبث أن يصير من المبذرين ، أي المعروفين بهذا الوصف ، والمبذرون إخوان الشياطين ، فليحذر المرء من عمل هو من شأن إخوان الشياطين ، وليحذر أن ينقلب من إخوان الشياطين ، وبهذا يتبين أن في الكلام إيجاز حذف تقديره : ولا تبذر تبذيرا فتصير من المبذرين ; إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين ، والذي يدل على المحذوف أن المرء يصدق عليه أنه من المبذرين عندما يبذر تبذيرة أو تبذيرتين .
ثم أكد التحذير بجملة
وكان الشيطان لربه كفورا ، وهذا تحذير شديد من أن يفضي التبذير بصاحبه إلى الكفر تدريجا بسبب التخلق بالطبائع الشيطانية ، فيذهب بتدهور في مهاوي الضلالة حتى يبلغ به إلى الكفر ، كما قال تعالى
وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم وإن أطعتموهم إنكم لمشركون ، ويجوز حمل الكفر هنا على كفر النعمة فيكون أقرب درجات إلى حال التخلق بالتبذير ; لأن التبذير صرف المال في غير ما أمر الله به فهو كفر لنعمة الله بالمال ، فالتخلق به يفضي إلى التخلق والاعتياد لكفران النعم .
وعلى الوجهين فالكلام جار على ما يعرف في المنطق بقياس المساواة ، إذ كان المبذر مؤاخيا للشيطان ، وكان الشيطان كفورا ، فكان المبذر كفورا بالمآل أو بالدرجة القريبة .
[ ص: 82 ] وقد كان التبذير من خلق أهل الجاهلية ، ولذلك يتمدحون بصفة المتلاف والمهلك المال ، فكان عندهم الميسر من أسباب الإتلاف ، فحذر الله المؤمنين من التلبس بصفات أهل الكفر ، وهي من المذام ، وأدبهم بآداب الحكمة والكمال .