فلما اعتزلهم وما يعبدون من دون الله وهبنا له إسحاق ويعقوب وكلا جعلنا نبيئا ووهبنا لهم من رحمتنا وجعلنا لهم لسان صدق عليا .
طوي ذكر اعتزاله إياهم بعد أن ذكر عزمه عليه إيجازا في الكلام للعلم بأن مثله لا يعزم أمرا إلا نفذ عزمه ، واكتفاء بذكر ما ترتب عليه من جعل عزمه حدثا واقعا قد حصل جزاؤه عليه من ربه ، فلأنه لما اعتزل أباه وقومه واستوحش بذلك الفراق وهبه الله ذرية يأنس لهم إذ وهبه
إسحاق ابنه ،
ويعقوب ابن ابنه ، وجعلهما نبيئين . وحسبك بهذا مكرمة له عند ربه .
وليس مجازاة الله
إبراهيم مقصورة على أن وهبه
إسحاق ويعقوب ، إذ ليس في الكلام ما يقتضي الانحصار ، فإنه قد وهبه
إسماعيل [ ص: 124 ] أيضا ، وظهرت موهبته إياه قبل ظهور موهبة
إسحاق ، وكل ذلك بعد أن اعتزل قومه .
وإنما اقتصر على ذكر
إسحاق ويعقوب دون ذكر
إسماعيل فلم يقل : وهبنا له
إسماعيل وإسحاق ويعقوب ، لأن
إبراهيم لما اعتزل قومه خرج بزوجه
سارة قريبته ، فهي قد اعتزلت قومها أيضا إرضاء لربها ولزوجها ، فذكر الله
الموهبة الشاملة لإبراهيم ولزوجه ، وهي أن وهب لهما
إسحاق وبعده
يعقوب ، ولأن هذه الموهبة لما كانت كفاء
لإبراهيم على مفارقته أباه وقومه كانت موهبة من يعاشر
إبراهيم ويؤنسه وهما
إسحاق ويعقوب . أما
إسماعيل فقد أراد الله أن يكون بعيدا عن
إبراهيم في
مكة ليكون جار بيت الله . وإنه لجوار أعظم من جوار
إسحاق ويعقوب أباهما .
وقد خص
إسماعيل بالذكر استقلالا عقب ذلك ، ومثله قوله تعالى
واذكر عبادنا إبراهيم وإسحاق ويعقوب ثم قال
واذكر إسماعيل في سورة ص ، وقد قال في آية الصافات
وقال إني ذاهب إلى ربي سيهدين رب هب لي من الصالحين فبشرناه بغلام حليم إلى أن قال (
وبشرناه بإسحاق نبيئا من الصالحين ) فذكر هنالك
إسماعيل عقب قوله
إني ذاهب إلى ربي سيهدين إذ هو المراد بالغلام الحليم .
والمراد بالهبة هنا : تقدير ما في الأزل عند الله لأن ازدياد
إسحاق ويعقوب كان بعد خروج
إبراهيم بمدة بعد أن سكن أرض
كنعان وبعد أن اجتاز
بمصر ورجع منها . وكذلك ازدياد
إسماعيل كان بعد خروجه بمدة وبعد أن اجتاز
بمصر كما ورد في الحديث وفي التوراة ، أو أريد حكاية هبة
إسحاق ويعقوب فيما مضى بالنسبة إلى زمن نزول القرآن تنبيها بأن ذلك جزاؤه على إخلاصه .
[ ص: 125 ] والنكتة في ذكر
يعقوب أن
إبراهيم رآه حفيدا وسر به ، فقد ولد
يعقوب قبل موت
إبراهيم بخمس عشر سنة ، وأن من
يعقوب نشأت أمة عظيمة .
وحرف ( لما ) حرف وجود لوجود ، أي يقتضي وجود جوابه لأجل وجود شرطها ، وقد تكون بينهما فترة فتدل على مجرد الجزائية ، أي التعليل دون توقيت ، وذلك كما هنا .
وضمير ( لهم ) عائد إلى
إبراهيم وإسحاق ويعقوب عليهم السلام و ( من ) في قوله
ومن ذريتهما محسن إما حرف تبعيض صفة لمحذوف دل عليه وهبنا ، أي موهوبا من رحمتنا . وإما اسم بمعنى بعض بتأويل ، كما تقدم عند قوله تعالى
ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر في سورة البقرة . وإن كان النحاة لم يثبتوا لكلمة من استعمالها اسما كما أثبتوا ذلك لكلمات الكاف وعن وعلى ، لكن بعض موارد الاستعمال تقتضيه ، كما قاله
التفتزاني في حاشية الكشاف ، وأقره
عبد الحكيم . وعلى هذا تكون من في موضع نصب على المفعول به لفعل وهبنا ، أي وهبنا لهم بعض رحمتنا ، وهي النبوءة لأنها رحمة لهم ولمن أرسلوا إليهم .
واللسان : مجاز في الذكر والثناء .
ووصف " لسان " ب " صدق " وصفا بالمصدر .
الصدق : بلوغ كمال نوعه ، كما تقدم آنفا ، فلسان الصدق ثناء الخير والتبجيل . ووصف بالعلو مجازا لشرف ذلك الثناء .
[ ص: 126 ] وقد رتب جزاء الله
إبراهيم على نبذه أهل الشرك ترتيبا بديعا إذ جوزي بنعمة الدنيا وهي العقب الشريف ، ونعمة الآخرة وهي الرحمة ، وبأثر تينك النعمتين وهو لسان الصدق ، إذ لا يذكر به إلا من حصل النعمتين .
وتقدم اختلاف القراء في نبيئا عند ذكر
إبراهيم - عليه السلام - .