قال فما بال القرون الأولى قال علمها عند ربي في كتاب لا يضل ربي ولا ينسى .
والبال : كلمة دقيقة المعنى ، تطلق على الحال المهم ، ومصدره الباله بتخفيف اللام ، قال تعالى (
كفر عنهم سيئاتهم وأصلح بالهم ) ، أي حالهم . وفي الحديث "
nindex.php?page=hadith&LINKID=10342140كل أمر ذي بال . . " إلخ ، وتطلق على الرأي يقال : خطر كذا ببالي . ويقولون : ما ألقى له بالا ، وإيثار هذه الكلمة هنا من دقيق الخصائص البلاغية .
[ ص: 234 ] أراد
فرعون أن يحاج
موسى بما حصل للقرون الماضية الذين كانوا على ملة فرعون ، أي قرون
أهل مصر ، أي ما حالهم ، أفتزعم أنهم اتفقوا على ضلالة . وهذه شنشنة من لا يجد حجة فيعمد إلى التشغيب بتخييل استبعاد كلام خصمه ، وهو في معنى قول
فرعون وملئه في الآية الأخرى (
قالوا أجئتنا لتلفتنا عما وجدنا عليه آباءنا ) .
ويجوز أن يكون المعنى أن
فرعون أراد التشغيب على
موسى حين نهضت حجته بأن ينقله إلى الحديث عن حال القرون الأولى : هل هم في عذاب بمناسبة قول
موسى (
أن العذاب على من كذب وتولى ) ، فإذا قال : إنهم في عذاب ، ثارت ثائرة أبنائهم فصاروا أعداء
لموسى ، وإذا قال : هم في سلام ، نهضت حجة
فرعون لأنه متابع لدينهم . ولأن
موسى لما أعلمه بربه وكان ذلك مشعرا بـ الخلق الأول خطر ببال فرعون أن يسأله عن الاعتقاد في مصير الناس بعد الفناء ، فسأل : ما بال القرون الأولى ؟ وما شأنهم وما الخبر عنهم ؟ وهو سؤال تعجيز وتشغيب .
وقول
موسى في جوابه (
علمها عند ربي في كتاب ) صالح للاحتمالين ، فعلى الاحتمال الأول يكون
موسى صرفه عن الخوض فيما لا يجدي في مقامه ذلك الذي هو المتمحض لدعوة الأحياء لا البحث عن الأموات الذين أفضوا إلى عالم الجزاء . وهذا نظير
nindex.php?page=hadith&LINKID=10342141قول النبيء - صلى الله عليه وسلم - لما سئل عن ذراري المشركين فقال : الله أعلم بما كانوا عاملين .
وعلى الاحتمال الثاني يكون
موسى قد عدل عن ذكر حالهم خيبة لمراد
فرعون وعدولا عن الاشتغال بغير الغرض الذي جاء لأجله .
والحاصل أن
موسى تجنب التصدي للمجادلة والمناقضة في غير ما جاء لأجله لأنه لم يبعث بذلك . وفي هذا الإعراض فوائد كثيرة
[ ص: 235 ] وهو عالم بمجمل أحوال القرون الأولى وغير عالم بتفاصيل أحوالهم وأحوال أشخاصهم .
وإضافة ( علمها ) من إضافة المصدر إلى مفعوله . وضمير ( علمها ) عائد إلى القرون الأولى لأن لفظ الجمع يجوز أن يؤنث ضميره .
وقوله ( في كتاب ) يحتمل أن يكون الكتاب مجازا في تفصيل العلم تشبيها له بالأمور المكتوبة ، وأن يكون كناية عن تحقيق العلم لأن الأشياء المكتوبة تكون محققة كقول
الحارث بن حلزة : وهل ينقض ما في المهارق الأهواء
ويؤكد هذا المعنى قوله (
لا يضل ربي ولا ينسى ) والضلال : الخطأ في العلم ، شبه بخطأ الطريق . والنسيان : عدم تذكر الأمر المعلوم في ذهن العالم .