وقالوا لولا يأتينا بآية من ربه أولم تأتهم بينة ما في الصحف الأولى
رجوع إلى التنويه بشأن القرآن ، وبأنه أعظم المعجزات . وهو الغرض الذي انتقل منه إلى أغراض مناسبة من قوله :
وكذلك أنزلناه قرآنا عربيا وصرفنا فيه من الوعيد لعلهم يتقون أو يحدث لهم ذكرا . والمناسبة في الانتقال هو ما تضمنه قوله :
فاصبر على ما يقولون فجيء هنا بشنع من أقوالهم التي أمر الله رسوله بأن يصبر عليها في قوله :
فاصبر على ما يقولون . فمن أقوالهم التي يقصدون منها التعنت والمكابرة أن قالوا : لولا يأتينا بآية من عند ربه فنؤمن برسالته ، كما قال تعالى :
فليأتنا بآية كما أرسل الأولون .
و لولا حرف تحضيض .
وجملة
أولم تأتهم بينة ما في الصحف الأولى في موضع الحال ، والواو للحال ، أي قالوا ذلك في حال أنهم أتتهم بينة ما في الصحف الأولى . فالاستفهام إنكاري; أنكر به نفي إتيان آية لهم الذي اقتضاه تحضيضهم على الإتيان بآية .
والبينة : الحجة .
والصحف الأولى : كتب الأنبياء السابقين ، كقوله تعالى :
إن هذا لفي الصحف الأولى صحف إبراهيم وموسى .
[ ص: 345 ] والصحف : جمع صحيفة . وهي قطعة من ورق أو كاغد أو خرقة يكتب فيها . ولما كان الكتاب مجموع صحف أطلق الصحف على الكتب .
ووجه اختيار الصحف هنا على الكتب أن في كل صحيفة من الكتب علما ، وأن جميعه حواه القرآن ، فكان كل جزء من القرآن آية ودليلا . وهذه البينة هي
محمد - صلى الله عليه وسلم - وكتابه القرآن ؛ لأن الرسول موعود به في الكتب السالفة ؛ ولأن في القرآن تصديقا لما في تلك الكتب من أخبار الأنبياء ومن المواعظ وأصول التشريع . وقد جاء به رسول أمي ليس من أهل الكتاب ، ولا نشأ في قوم أهل علم ومزاولة للتاريخ مع مجيئه بما هو أوضح من فلق الصبح من أخبارهم التي لم يستطع أهل الكتاب إنكارها ، قال تعالى :
الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم وإن فريقا منهم ليكتمون الحق وهم يعلمون ، وكانوا لا يحققون كثيرا منها بما طرأ عليهم من التفرق وتلاشي أصول كتبهم وإعادة كتابة كثير منها بالمعنى على حسب تأويلات سقيمة .
وأما القرآن فما حواه من دلائل الصدق والرشاد ، وما امتاز به عن سائر الكتب من البلاغة والفصاحة البالغتين حد الإعجاز ، وهو ما قامت به الحجة على العرب مباشرة وعلى غيرهم استدلالا . وهذا مثل قوله تعالى :
لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكين حتى تأتيهم البينة رسول من الله يتلو صحفا مطهرة .
وقرأ
نافع ، وحفص ،
وابن جماز عن
أبي جعفر " تأتهم " بتاء المضارع للمؤنث . وقرأه الباقون بتحتية المذكر ؛ لأن تأنيث " بينة " غير حقيقي ، وأصل الإسناد التذكير ؛ لأن التذكير ليس علامة ، ولكنه الأصل في الكلام .