ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت فقال لهم الله موتوا ثم أحياهم إن الله لذو فضل على الناس ولكن أكثر الناس لا يشكرون وقاتلوا في سبيل الله واعلموا أن الله سميع عليم
استئناف ابتدائي للتحريض على الجهاد ، والتذكير بأن الحذر لا يؤخر الأجل ، وأن الجبان قد يلقى حتفه في مظنة النجاة ، وقد تقدم : أن هذه السورة نزلت في مدة صلح
الحديبية وأنها تمهيد لفتح
مكة ، فالقتال من أهم أغراضها ، والمقصود من هذا الكلام هو قوله
وقاتلوا في سبيل الله الآية .
فالكلام رجوع إلى قوله
كتب عليكم القتال وهو كره لكم وفصلت بين الكلامين الآيات النازلة خلالهما المفتتحة بـ ( يسألونك ) .
وموقع
ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم قبل قوله
وقاتلوا في سبيل الله موقع ذكر الدليل قبل المقصود ، وهذا طريق من طرق الخطابة أن يقدم الدليل قبل المستدل عليه لمقاصد كقول
علي رضي الله عنه ، في بعض خطبه لما بلغه استيلاء جند
الشام على أكثر البلاد ، إذا افتتح الخطبة فقال : ما هي إلا
الكوفة أقبضها وأبسطها أنبئت بسرا هو
ابن أبي أرطاة من قادة جنود
الشام قد اطلع
اليمن ، وإني والله لأظن أن هؤلاء القوم سيدالون منكم
[ ص: 476 ] باجتماعهم على باطلهم ، وتفرقكم عن حقكم فقوله " ما هي إلا
الكوفة " موقعة موقع الدليل على قوله " لأظن هؤلاء القوم " إلخ وقال
nindex.php?page=showalam&ids=16745عيسى بن طلحة لما دخل على
nindex.php?page=showalam&ids=16561عروة بن الزبير ، حين قطعت رجله : ما كنا نعدك للصراع ، والحمد لله الذي أبقى لنا أكثرك : أبقى لنا سمعك ، وبصرك ، ولسانك ، وعقلك ، وإحدى رجليك فقدم قوله : ما كنا نعدك للصراع ، والمقصود من مثل ذلك الاهتمام والعناية بالحجة ، قبل ذكر الدعوى ، أو حملا على التعجيل بالامتثال .
واعلم أن تركيب ( ألم تر إلى كذا ) إذا جاء فعل الرؤية فيه متعديا إلى ما ليس من شأن السامع أن يكون رآه ، كان كلاما مقصودا منه التحريض على علم ما عدي إليه فعل الرؤية ، وهذا مما اتفق عليه المفسرون ولذلك تكون همزة الاستفهام مستعملة في غير معنى الاستفهام بل في معنى مجازي أو كنائي ، من معاني الاستفهام غير الحقيقي ، وكان الخطاب به غالبا موجها إلى غير معين ، وربما كان المخاطب مفروضا متخيلا .
ولنا في بيان وجه إفادة هذا التحريض من ذلك التركيب وجوه ثلاثة : الوجه الأول : أن يكون الاستفهام مستعملا في التعجب ، أو التعجيب ، من عدم علم المخاطب بمفعول فعل الرؤية ، ويكون فعل الرؤية علميا من أخوات ظن ، على مذهب
الفراء وهو صواب ; لأن " إلى " ولام الجر يتعاقبان في الكلام كثيرا ، ومنه قوله تعالى
والأمر إليك أي لك وقالوا " أحمد الله إليك " كما يقال " أحمد لك الله " والمجرور بإلى في محل المفعول الأول ، لأن حرف الجر الزائد لا يطلب متعلقا ، وجملة
وهم ألوف في موضع الحال ، سادة مسد المفعول الثاني : لأن أصل المفعول الثاني لأفعال القلوب أنه حال ، على تقدير : ما كان من حقهم الخروج ، وتفرع على قوله وهم ألوف قوله
فقال لهم الله موتوا فهو من تمام معنى المفعول الثاني أو تجعل إلى تجريدا لاستعارة فعل الرؤية لمعنى العلم ، أو قرينة عليها ، أو لتضمين فعل الرؤية معنى النظر ، ليحصل الادعاء أن هذا الأمر المدرك بالعقل كأنه مدرك بالنظر ، لكونه بين
[ ص: 477 ] الصدق لمن علمه ، فيكون قولهم " ألم تر إلى كذا " في قوله : جملتين : ألم تعلم كذا وتنظر إليه . الوجه الثاني : أن يكون الاستفهام تقريريا فإنه كثر مجيء الاستفهام التقريري في الأفعال المنفية ، مثل
ألم نشرح لك صدرك ألم تعلم أن الله على كل شيء قدير . والقول في فعل الرؤية وفي تعدية حرف " إلى " نظير القول فيه في الوجه الأول .
الوجه الثالث : أن تجعل الاستفهام إنكاريا ، إنكارا لعدم علم المخاطب بمفعول فعل الرؤية والرؤية علمية ، والقول في حرف " إلى " نظير القول فيه على الوجه الأول ، أو أن تكون الرؤية بصرية ضمن الفعل معنى تنظر على أن أصله أن يخاطب به من غفل عن النظر إلى شيء مبصر ويكون الاستفهام إنكاريا : حقيقة أو تنزيلا ، ثم نقل المركب إلى استعماله في غير الأمور المبصرة فصار كالمثل ، وقريب منه قول
الأعشى :
ترى الجود يجري ظاهرا فوق وجهه واستفادة التحريض ، على الوجوه الثلاثة إنما هي من طريق الكناية بلازم معنى الاستفهام لأن شأن الأمر المتعجب منه ، أو المقرر به ، أو المنكور علمه ، أن يكون شأنه أن تتوافر الدواعي على علمه ، وذلك مما يحرض على علمه .
واعلم أن هذا التركيب جرى مجرى المثل ، في ملازمته لهذا الأسلوب ، سوى أنهم غيروه باختلاف أدوات الخطاب التي يشتمل عليها : من تذكير وضده ، وإفراد وضده ، نحو " ألم تري " في خطاب المرأة و " ألم تريا " و " ألم تروا " و " ألم ترين " ، في التثنية والجمع هذا إذا خوطب بهذا المركب في أمر ليس من شأنه أن يكون مبصرا للمخاطب أو مطلقا .
وقد اختلف في المراد من هؤلاء الذين خرجوا من ديارهم ، والأظهر أنهم قوم خرجوا خائفين من أعدائهم فتركوا ديارهم جبنا ، وقرينة ذلك عندي قوله تعالى :
وهم ألوف فإنه جملة حال وهي محل التعجيب ، وإنما تكون كثرة العدد محلا للتعجيب إذا كان المقصود الخوف من العدو ، فإن شأن القوم الكثيرين ألا يتركوا ديارهم خوفا وهلعا
[ ص: 478 ] والعرب تقول للجيش إذا بلغ الألوف لا يغلب من قلة . فقيل هم من
بني إسرائيل خالفوا على نبيء لهم في دعوته إياهم للجهاد ، ففارقوا وطنهم فرارا من الجهاد ، وهذا الأظهر ، فتكون القصة تمثيلا لحال أهل الجبن في القتال ، بحال الذين خرجوا من ديارهم ، بجامع الجبن وكانت الحالة المشبه بها أظهر في صفة الجبن وأفظع ، مثل تمثيل حال المتردد في شيء بحال من يقدم رجلا ويؤخر أخرى ، فلا يقال إن ذلك يرجع إلى تشبيه الشيء بمثله . وهذا أرجح الوجوه لأن أكثر أمثال القرآن أن تكون بأحوال الأمم الشهيرة وبخاصة
بني إسرائيل . وقيل هم من قوم من
بني إسرائيل من
أهل داوردان قرب
واسط وقع طاعون ببلدهم فخرجوا إلى
واد أفيح فرماهم الله بداء موت ثمانية أيام ، حتى انتفخوا ونتنت أجسامهم ثم أحياها . وقيل هم من
أهل أذرعات ، بجهات
الشام . واتفقت الروايات كلها على أن الله أحياهم بدعوة النبيء
حزقيال بن بوزي فتكون القصة استعارة : شبه الذين يجبنون عن القتال بالذين يجبنون من الطاعون ، بجامع خوف الموت ، والمشبهون يحتمل أنهم قوم من المسلمين خامرهم الجبن لما دعوا إلى الجهاد في بعض الغزوات ، ويحتمل أنهم فريق مفروض وقوعه قبل أن يقع ، لقطع الخواطر التي قد تخطر في قلوبهم .
وفي تفسير ابن كثير ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=13036ابن جريج عن
عطاء : أن هذا مثل لا قصة واقعة ، وهذا بعيد يبعده التعبير عنهم بالموصول ، وقوله
فقال لهم الله . وانتصب
حذر الموت على المفعول لأجله ، وعامله
خرجوا .
والأظهر أنهم قوم فروا من عدوهم ، مع كثرتهم ، وأخلوا له الديار ، فوقعت لهم في طريقهم مصائب أشرفوا بها على الهلاك ، ثم نجوا ، أو أوبئة وأمراض ، كانت أعراضها تشبه أعراض الموت ، مثل داء السكت ثم برئوا منها : فهم في حالهم تلك مثل قول الراجز :
[ ص: 479 ] وخارج أخرجه حب الطـمـع فر من الموت وفي الموت وقع
ويؤيد أنها إشارة إلى حادثة وليست مثلا قوله
إن الله لذو فضل على الناس الآية ويؤيد أن المتحدث عنهم ليسوا من
بني إسرائيل قوله تعالى ، بعد هذه
ألم تر إلى الملأ من بني إسرائيل من بعد موسى والآية تشير إلى معنى قوله تعالى
أينما تكونوا يدرككم الموت وقوله
قل لو كنتم في بيوتكم لبرز الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم .
فأما الذين قالوا إنهم قوم من
بني إسرائيل أحياهم الله بدعوة
حزقيال ، والذين قالوا إنما هذا مثل لا قصة واقعة ، فالظاهر أنهم أرادوا الرؤيا التي ذكرت في كتاب
حزقيال في الإصحاح 37 منه إذ قال : أخرجني روح الرب وأنزلني في وسط بقعة ملآنة عظاما ومر بي من حولها وإذا هي كثيرة ويابسة فقال لي يا ابن آدم أتحيا هذه العظام ، فقلت يا سيدي أنت تعلم ، فقال لي تنبأ على هذه العظام وقل لها أيتها العظام اليابسة اسمعي كلمة الرب ، فتقاربت العظام ، وإذا بالعصب واللحم كساها وبسط الجلد عليها من فوق وليس فيها روح فقال لي تنبأ للروح وقل قال الرب هلم يا روح من الرياح الأربع وهب على هؤلاء القتلى فتنبأت كما أمرني فدخل فيهم الروح فحيوا وقاموا على أقدامهم جيش عظيم جدا جدا . وهذا مثل ضربه النبيء لاستماتة قومه ، واستسلامهم لأعدائهم ، لأنه قال بعده " هذه العظام هي كل بيوت إسرائيل هم يقولون يبست عظامنا وهلك رجاؤنا قد انقطعنا فتنبأ وقل لهم قال السيد الرب ها أنذا أفتح قبوركم وأصعدكم منها يا شعبي وآتي بكم إلى أرض إسرائيل وأجعل روحي فيكم فتحيون . فلعل هذا المثل مع الموضع الذي كانت فيه مراءى هذا النبيء ، وهو
الخابور ، وهو قرب
واسط ، هو الذي حدا بعض أهل القصص إلى دعوى أن هؤلاء القوم من أهل
داوردان : إذ لعل
داوردان كانت بجهات
الخابور الذي رأى عنده النبيء
حزقيال ما رأى .
وقوله تعالى
فقال لهم الله موتوا ثم أحياهم القول فيه إما مجاز في التكوين والموت حقيقة أي جعل فيهم حالة الموت ، وهي وقوف القلب وذهاب الإدراك والإحساس ، استعيرت حالة تلقي المكون لأثر الإرادة بتلقي المأمور للأمر ، فأطلق على الحالة المشبهة المركب الدال على الحالة المشبه بها على طريقة التمثيل ، ثم أحياهم بزوال ذلك العارض فعلموا أنهم أصيبوا بما لو دام لكان موتا مستمرا ، وقد يكون هذا من الأدواء النادرة المشبهة داء
[ ص: 480 ] السكت وإما أن يكون القول مجازا عن الإنذار بالموت ، والموت حقيقة ، أي أراهم الله مهالك شموا منها رائحة الموت ، ثم فرج الله عنهم فأحياهم .
وإما أن يكون كلاما حقيقيا بوحي الله ، لبعض الأنبياء ، والموت موت مجازي ، وهو أمر للتحقير شتما لهم ، ورماهم بالذل والصغار ، ثم أحياهم ، وثبت فيهم روح الشجاعة .
والمقصود من هذا موعظة المسلمين بترك الجبن ، وأن الخوف من الموت لا يدفع الموت ، فهؤلاء الذين ضرب بهم هذا المثل خرجوا من ديارهم خائفين من الموت ، فلم يغن خوفهم عنهم شيئا ، وأراهم الله الموت ثم أحياهم ، ليصير خلق الشجاعة لهم حاصلا بإدراك الحس .
ومحل العبرة من القصة : هو أنهم ذاقوا الموت الذي فروا منه ، ليعلموا أن الفرار لا يغني عنهم شيئا ، وأنهم ذاقوا الحياة بعد الموت ، ليعلموا أن الموت والحياة بيد الله ، كما قال تعالى
قل لن ينفعكم الفرار إن فررتم من الموت أو القتل .
وجملة
إن الله لذو فضل على الناس واقعة موقع التعليل لجملة
ثم أحياهم والمقصود منها بث خلق الاعتماد على الله في نفوس المسلمين في جميع أمورهم ، وأنهم إن شكروا الله على ما آتاهم من النعم ، زادهم من فضله ، ويسر لهم ما هو صعب .
وجملة
وقاتلوا في سبيل الله الآية هي المقصود الأول ، فإن ما قبلها تمهيد لها ، كما علمت ، وقد جعلت في النظم معطوفة على جملة
ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم عطفا على الاستئناف ، فيكون لها حكم جملة مستأنفة ، استئنافا ابتدائيا ، ولولا طول الفصل بينها وبين جملة
كتب عليكم القتال وهو كره لكم ، لقلنا : إنها معطوفة عليها على أن اتصال الغرضين يلحقها بها بدون عطف .
وجملة
واعلموا أن الله سميع عليم حث على القتال ، وتحذير من تركه ، بتذكيرهم بإحاطة علم الله تعالى بجميع المعلومات : ظاهرها وباطنها . وقدم وصف سميع ، وهو أخص من عليم ، اهتماما به هنا ; لأن معظم أحوال القتال في سبيل الله من الأمور المسموعة ، مثل جلبة الجيش ، وقعقعة السلاح ، وصهيل الخيل . ثم ذكر وصف عليم لأنه يعم العلم بجميع المعلومات ، وفيها ما هو من حديث النفس مثل خلق الخوف ، وتسويل النفس القعود عن القتال ، وفي هذا تعريض بالوعد والوعيد .
[ ص: 481 ] وافتتاح الجملة بقوله واعلموا للتنبيه على ما تحتوي عليه من معنى صريح وتعريض ، وقد تقدم قريبا عند قوله تعالى
واتقوا الله واعلموا أنكم ملاقوه .